شبكة البصرة
محمد عارف
مستشار في العلوم والتكنولوجيا
كروايات الواقعية السحرية، تتحدّى الخيال وقائع الفساد ونهب المال العام في العراق. هكذا تتوالى واقعة سطو ضباط في قوة الحماية الخاصة برئاسة الجمهورية على مصرف رسمي، واختلاس وزير التجارة السابق ومساعدوه موارد الحصص التموينية التي تشكل القوت الأساسي لملايين السكان، وهروب وزير الكهرباء الأسبق (تحت جُنح الظلام؟) من دون العثور على أثر ملايين الدولارات التي اعتقل بتهمة اختلاسها، واختفاء المفتش العام لوزارة الدفاع بأموال تسليح الجيش. وكما في قصص "ألف ليلة وليلة"، تُختتمُ كل ليلة بالوعد بما هو أعظم في الليالي القادمة!
ويتفوق الواقع العراقي على خيال الواقعية السحرية في سجال التصريحات بين أعلى المسؤولين في الدولة حول حادث سرقة فرع "مصرف الرافدين" في الزاوية في منطقة الكرادة وسط بغداد. وزير الداخلية جواد البولاني أعلن عن اقتحام عناصر من فوج حماية نائب رئيس الجمهورية عادل عبدالمهدي المصرف فجر الثامن والعشرين من الشهر الماضي، وقتل ثمانية من حراسه وسرقة نحو عدة ملايين من الدولارات. وذكر البولاني وقوف جهات سياسية نافذة وراء العملية، وقال إن بين المعتقلين النقيب جعفر لازم الذي ينتمي إلى الفوج الرئاسي الخاص وضابط آخر برتبة ملازم.
وأعقب ذلك مباشرة صدور تصريحات في مواقع إنترنت وفضائيات قريبة من "المجلس الإسلامي الأعلى"، الذي يعتبر نائب الرئيس من أبرز قيادييه تذكر أن وزير الداخلية ورئيس الوزراء "نائمان"، واتهمت البولاني بمحاولة سرقة جهود الآخرين، وأشادت بدور عبدالمهدي في القبض على منفذي السرقة، وأعلنت عن تكريم نائب رئيس الجمهورية فوج حمايته تثميناً لدورهم في ملاحقة المشتبه بهم في عملية سرقة المصرف وإلقاء القبض عليهم.
ويصعب على من لا يملك خبرة بأسلوب الواقعية السحرية للفئات الحاكمة الحالية متابعة تصريحات المسؤولين، والتي تنقض وتشيد وتعارض في آنٍ واحدٍ بعضها بعضاً.
رئيس الوزراء المالكي، ذكر في رده على أسئلة صحافيين عبر موقع "المركز الوطني للإعلام" أنه طلب من عادل عبدالمهدي اعتقال المجرمين وإعادة الأموال إلى الدولة، واستدرك مؤكداً أن الأموال أُعيدت، لكن الجناة لم يسلموا إلى الأجهزة الأمنية المختصة. وذكر أن ما أوضحته وزارة الداخلية هو حقيقة ما حدث، ونفى وجود محاباة لأحد في هذه القضية، وقال إن "الداخلية" باشرت عملية ملاحقة الجناة وألقت القبض على بعضهم، وهرب آخرون. وأعلن: "لا مساومة في حرمة الدولة والاقتصاص من الجناة واسترجاع حق المظلوم".
ومن يسترجع حق العراق المظلوم بالنفقات الفادحة لقوات حماية مشكوك حتى بولائها الشخصي؟ كشفت عن هذه النفقات تقارير نشرتها أخيراً صحف عربية وأميركية عن تعرض المالكي لمحاولة اغتيال نفذها أحد أفراد حمايته. ونقلت الصحف عن مسؤولين في وزارة الداخلية أن عدد عناصر الأمن المسجلين لدى الوزارة يبلغ نحو 128 ألف عنصر. وتقضي تعليمات "الداخلية" بتخصيص ثلاثين عنصراً أمنياً لحماية الوزير، وعشرين لوكيل الوزير، وثمانية لحماية المستشارين، وخمسة لكل موظف بدرجة مدير عام، ومثل هذا العدد لعضو مجلس المحافظة، إضافة إلى حماية خاصة لا يُعرف عددها لمسؤولين في الدولة ووزارتي الداخلية والدفاع، وأعضاء مجلس النواب.
ويبلغ معدل المرتب الشهري لكل عنصر في الحماية 500 دولار، أي أن معدل الإنفاق السنوي على حماية المسؤولين يبلغ نحو مليار دولار كمرتبات فقط دون حساب النفقات الأخرى، مثل السلاح ووسائل النقل. وأكثر السيارات المستخدمة هي من موديل 2009، كما يتم استيراد سيارات مصفحة وفق طلبيات خاصة تدفع الدولة أثمانها. وتبلغ مرتبات ومخصصات المسؤولين الذين ينفق على حمايتهم فقط مليار دولار. لكن ما الجدوى الاقتصادية والسياسية لنظام تحرسه الدولارات والقواعد العسكرية الأجنبية؟
هذا الفساد الذي يجري باسم القانون هو إعادةُ إنتاجٍ لفساد عملية الغزو والاحتلال ذاتها. والفساد الأعظم، إذا صح التعبير، حدث باسم الأمم المتحدة، وبموجب قرارات مجلس الأمن، وقد كلف العراقيين ملايين القتلى والجرحى واللاجئين والمشردين، وتسبب في خسارة الاقتصادين العراقي والأميركي ترليونات الدولارات.
قرار مجلس الأمن 1483، الذي صدر بعد شهرين من الاحتلال، أقر في الواقع تسليم عصابة لصوص اقتحمت المنزل مهمة إعمار المنزل وإدارة شؤونه. وهذا ما جرى خلال السنوات الست الماضية. تفاصيل ذلك يعرضها أحدث كتاب صدر عن العراق، وعنوانه "جيش هالبرتون" Halliburton’s Army. و"هالبرتون" شركة صناعات النفط الأميركية التي تولت المقاولة الرئيسية لعملية غزو العراق. مؤلف الكتاب "براتاب تشادرجي" عمل مراسلاً ميدانياً لصحيفة "واشنطن بوست" في العراق ويشرح العنوان الفرعي لكتابه: "كيف استطاعت شركة نفط ذات علاقات جيدة من تكساس تثوير طريقة أميركا في صنع الحرب". جرى ذلك عن طريق تحويل كثير من مهمات الجيوش النظامية إلى مقاولات ينفذها متعاقدون مرتزقة، يعادل عددهم حالياً عدد القوات العسكرية في العراق.
ويفضح الكتاب تفاصيل فساد الاحتلال وعمليات نهب أموال العراق. ويكشف عن دسائس واختلاسات ورشوات تجري في العراق ودول الجوار التي استخدمت كقواعد لغزوه. هنا نقرأ تفاصيل حصول "هاليبرتون" على نحو مليوني دولار مقابل مجرد إعداد الخطة المسماة "استصلاح النفط العراقي". حدث ذلك قبل الغزو، واستخدمت في تمويل تنفيذ الخطة بعد الغزو أموال الدولة العراقية، ومن دون مشاركة مسؤول عراقي واحد في اللجنة المسؤولة عن الصرف.
دشن عمليات النهب أمر رئاسي أصدره الرئيس الأميركي السابق بوش في العشرين من مارس عام 2003 وقضي بتحويل جميع الأموال العراقية المجمدة منذ عام 1990 إلى حساب خاص في "بنك الاحتياط الفيدرالي " في نيويورك. وبدلاً من أن يدين \"مجلس الأمن\" هذا التصرف غير المشروع بأموال بلد محتل، أصدر في شهر مايو قراره 1483 الذي أنشأ ما يسمى "صندوق التنمية العراقي". وجرى تحويل جميع واردات العراق من النفط إلى هذا الصندوق، إضافة إلى أموال العراق المجمدة خارج الولايات المتحدة، وأكثر من ثمانية مليارات دولار موجودات "برنامج النفط للغذاء".
ويصف الكتاب كيف حولت هذه الأموال التي بلغ مجموعها نحو عشرين مليار دولار إلى عملات ورقية فئة المائة دولار، ورزمت بأكياس نقلتها طائرات الشحن إلى بغداد، حيث أنفقها، دون حساب أو مشاركة ممثلين عن العراق، "مجلس مراجعة البرنامج" في \"إدارة التحالف المؤقتة\" التي يرأسها حاكم الاحتلال بول بريمر.
تُوجع القلبَ مقارنة نهب مليارات الدولارات بوقائع بائسة وردت أخيراً في تقارير "هيئة النزاهة"، وبينها حادثة فساد في "وزارة الثقافة"، تبدو كقصة فكاهية رومانسية للكاتب الروسي أنطوان تشيخوف. بطلة الحادثة موظفة عزباء متورطة بتوظيف أشخاص من أسرة واحدة بعد أن وعدها أحد أفرادها بالزواج. اكتشفت ذلك "لجنة النزاهة" حين وجدت عدة موظفين في الوزارة من أسرة واحدة، وظهر أن الزوج الموعود لم يفِ بوعده. في حالات كهذه، يتصرف "القانون العشائري" بطريقة أكثر إنسانية وتقدمية، حين يخير الزوج المتملص ما بين الزواج بالضحية أو الطرد من \"وزارة الثقافة\" هو وأفراد عائلته \"اللئيمة\" جميعاً!
الاتحاد