وحدث أن نصبت روان شباكها حول طبيب بالجيش يحمل رتبة نقيب.. وكانت خطة استدراجه بواسطة أحد العملاء لتوقيع الكشف على زوجها. إذ تهيأت الحية الرقطاء وبدت كأن الفتنة كلها حلت بذاك الجسد.. فطابت ثمارها شوقاً لقاطفها.
ولما جاء الطبيب الأعزب تسمر مكانه.. وبدا كطفل جائع تتلوى أعضاؤه وترتجف. . فثوبها العريان لم يخف من مفاتنها أكثر مما كشف، وجسدها الأملود كان ينادي: أيها الجائع المبهوت. . هيا . . تذوق اللذات براكين من الفوران. . قناطير من النعيم السرمدي، والقطف.
وكمثل سابقيه. . فقد الطبيب مقاومته وغرق فيها عشقاً وذوباناً . وشوقاً الى الذروة . . فلم تكن تمنحه إلا بمقدار . . حتى تجيء اللحظة التي يفقد فيها العقل تماماً، فتبدأ معه المبادلة. . فكل شيء له مقابل.. وثمن.
ولما جاءت لحظة المكاشفة. . والسقوط. . لم يصدق النقيب الطبيب حسين علي عبد الله أنه بين أحضان جاسوسة محترفة، في وكر للجواسيس، فانتفض بين أحضانها وقد غاصت نشوته وقام فزعاً يرتدي ملابسه ويتوعدها بمصير مظلم.
هددته بتسجيلاته الجنسية معها فرد عليها بأنه رجل ولا عار عليه فهي تؤكد رجولته. هددته ثانية بما تفوه به في السياسة والعسكرية وأن مستقبله بيدها. فبصق عليها قائلاً إنهم سيكافئوه بالترقية لأنه سلمهم جاسوسة إسرائيلية. وهجم عليها محاولاً تكبيلها واقتيادها للسلطات، لكنه فوجئ بعيزرا أمامه يشهر مسدسه.
أحس بخطئه الكبير كرجل عسكري، فقد كان يجب عليه مسايرتها حتى يخرج من بيت الأفاعي. لكنه "كان يعتقد" أنهما بمفردهما.
لم يترك له عيزرا فرصة للتعامل معه. بل انطلقت الرصاصات الى رأسه، وتناثرت شظايا عظام جمجمته على جدران الغرفة.
صرخت روان في هلع.. وكتمت صراخها عندما بحلق فيها غاضباً. . بعينين ترسلان نظرات كاللهيب، وتكورت ترتجف في أنين خافت. .
أخذ عيزرا يسبها لأنها عجزت عن السيطرة عليه كسابقيه.. وتسرعت كثيراً في مكاشفته ثقة في جمالها.
وبخوف يشع رعباً دافعت عن نفسها، مؤكدة له بأنها طوعته جدياً لكنه "وطني مخلص أكثر من اللازم" وظلا طوال الليل يحفران قبره في الحديقة الخلفية. . ثم أهالا التراب فوق الجثة. . وانكمشت روان يفتك بها الهلع. . فهي تنام بين أحضان قاتل. . وعلى بعد خطوة من فراشها. . يرقد قتيل.
الطيار القتيل
. . حلت الكآبة بالحية تفتت عقلها. . لكن الثعبان السام لم يكن ليستسلم. . فالمجد ينتظره في إسرائيل . . وهو الآن يصنع تاريخه..
ومضى الجاسوس الداهية في طريقه قدماً تحفه الثقة ويملؤه الغرور. تسع سنوات كان لا يكل ولا يخاف. . وأعوانه منتشرون في كل مؤسسات العراق الحيوية . . يمدونه بما يذهل الإسرائيليين من معلومات عن أحشاء العراق، وشرايين الحياة المختلفة به.
وفي رسالة التكليف التي تلقاها بواسطة الراديو. . كان الأمر مختلفاً عليه. فقد كان المطلوب تجنيد طيار عسكري عراقي – وبأي ثمن – يقبل الفرار بطائرته الحربية ميج 21 الى إسرائيل.
بدأ عيزرا رحلة البحث عن طيار خائن. . ومن خلال الخونة العسكريين أعضاء شبكته، تعرف عيزرا – بشكل يبدو عفوياً – بالنقيب طيار شاكر محمود يوسف ، المولود في "محلة حسن جديد باشا" عام 1936، وسبق له أن التحق بدورات تدريبية في موسكو ولندن لزيادة كفاءته كطيار للميج 21 القتالية الاعتراضية التي ترعب إسرائيل.
التقى به عيزرا وزوجته في إحدى الحفلات. . وحاولت روان بأسلحتها الأنثوية الطاغية أن تلفت انتباهه لكنه تجاهلها. . فاغتاظت وتملكها الضيق وشكت في كونها أنثى لا ترد. حتى إذا ما استجمعت نفسها بعدها بأيام، أعلنت عيزرا بقرار اعتزالها مهمة اصطياد عراقيين جدد.
لكنه فاجأها ذت مساء حينما جاء وبرفقته شاكر، وأسر لها بأن الطيار الشاب تجاهلها في الحفل لوجود زوجته معه، وأن "الوسيط" استدرج شاكر ورأى منه الرغبة في التعرف اليها.. فتظاهر بمصاحبته وبدأت الاتصالات بينهما.
وما كادت روان تسترجع من جديد ثقتها في جاذبيتها وسحرها. . وتوشك أن تسيطر على أعصاب الطيار الولهان، حتى سافر فجأة الى أمريكا للحصول على دورة في "قيادة التشكيل" في تكساس.
هناك تولت المخابرات المركزية أمره. . فدفعت بحية أخرى في طريقه. . جيء بها خصيصاً على وجه السرعة من النمسا حيث تعمل كممرضة بالمستشفى الأمريكي بفيينا.
إنها "كروثر هلكر". . فاتنة الحسن طاغية الجمال .. التي عملت كمشرفة في نادي الطيارين الشرقيين في قاعدة التدريب الجوية بتكساس. . ونصبت شباكها حول شاكر يوسف فوقع في حبائلها لا حول له ولا قوة. فقد كان يريدها عشيقة مؤقتة بأمريكا، بينما كانت تريده زوجاً لتكتمل الخطة. . رفض رغبتها بالطبع لأنه متزوج ويحب زوجته. لكنها لم تيأس . . وظلت تحاول . . مرات ومرات الى أن فشلت. . ووضح جيداً جهل الموساد و الـسي اي اي ، فالعسكريون العرب محظور عليهم الزواج بأجنبيات.
لكن تملكت الاسرائيليين والأمريكان رغبة عارمة في السيطرة عليه وتجنيده. . ليهديهم سر أسرار الطائرة السوفييتية اللغز .. ولما عاد الى بغداد دون أن يحقق حلمهم. . طارت كروثر خلفه ونزلت بفندق بغداد الدولي واتصلت به.
ولأنها حضرت لأجله – تحرج كشرقي – واستأجر لها شقة مفروشة بمنطقة الكرادة الشرقية تطل على نهر دجلة. وأخذ يتردد عليها خفية، محاولاً إقناعها بالعودة لأنه متزوج ويعول طفلاً فلم تنصت اليه.
وعندما حدثته عن "منظمة السلام العالمي" المهتمة بنشر السلام حول العالم، صرخ فيها وهددها بأن تسافر فوراً خارج العراق، وإلا فهو مضطر لإبلاغ السلطات بسعيها لتجنيده لصالح جهات أجنبية.
عند ذلك . . ولأنها تحمل تصريحاً بالقتل، رأت أنه لا بد من تصفيته في أسرع وقت خشية افتضاح الأمر. وتنكشف بذلك نوايا الأمريكيين والإسرائيليين، فيمنع الطيارون الذين أوفدوا في بعثات للخارج من قيادة الميج 21، وصدرت الأوامر لعيزرا ناجي زلخا بالتخلص من النقيب الطيار شاكر يوسف.
وهنا قد يتساءل البعض:
ما علاقة عيزرا جاسوس الموساد بكروثر هلكر جاسوسة الـ C.I.A.؟
الإجابة بسيطة جداً. . فالموساد والـ C.I.A. ترتبطان معاً بعلاقات وثيقة ترسمها المصالح والنوايا المشتركة. وسواء جند طيار عربي بواسطة الموساد أو بواسطة الـ C. I.A. فسوف يهرب بطائرته الى إسرائيل، ليفحصها الأمريكان.
من هنا . . لجأت الـ C.I.A. لمعاونة الموساد في تصفية شاكر بواسطة عملائها ببغداد. وبثت الموساد امراً عاجلاً لعيزرا بالاتصال بكروثر التي تجيد العربية، وتم الاتفاق بينهما على الخطة..
وأثناء زيارة النقيب شاكر الأخيرة لهلكر بالشقة المفروشة، عمد كما في المرات السابقة الى ترك سيارته على بعد شارعين تحسباً لأي طارئ، واحتدم النقاش بينهما فهددته بأفلام وصور جنسية أخذت لهما في أمريكا فلم يهتم.
وفي آخر محاولة لإبقائه حياً، عرضت عليه مليون دولار ثمناً لطائرة الميج 21 يفر بها لإسرائيل، فلطمها على وجهها لطمة قوية انبثق لها الدم من فمها. وقبل أن يخرج من الحجرة ثائراً لإبلاغ السلطات، فاجأه عيزرا بطلقات مسدسه الكاتم للصوت، وسقط شاكر في الحال قبلما يتمكن من استعمال مسدسه.
وبينما هلكر تعد حقيبتها للحاق بالطائرة المتجهة الى لندن، انشغل عيزرا بإزالة الآثار والبصمات، وجر جثة الطيار لأسفل السرير ملفوفة ببطانية، ثم فتح أجهزة التكييف .. وغادر الشقة.
اكتشفت الجثة في 6 يوليو 1965 بعد وقوع الجريمة باسبوع. كان عيزرا في ذلك الوقت يمضى أسوأ أيام حياته على الإطلاق. إذ نشرت الصحف العراقية نبأ مقتل كروثر هلكر بأحد فنادق لندن في ظروف غامضة، بعد يومين من مغادرتها لبغداد، وصرح مسؤول أمني أن الجثة وجدت ممزقة، وبها ثلاثون طعنة بعدد سنين عمرها، هكذا تخلصت الـ C.I.A. من كروثر لإخفاء معالم الجريمة الى الأبد. فماذا عنه هو؟
دارت الدنيا بعيزرا وضاقت به على وسعها. وصور له خياله أن الموساد سوف تقتله أيضاً لأنه ستراً للجريمة. . وما كان يعلم أن أسلوب قتل العملاء بعد انتهاء مهامهم تستخدمه الـ C.I.A. فقط. أما الموساد فالجواسيس لديها بمثابة أبطال عظماء تفخر بهم وتخلدهم. لم يكن يعلم ذلك عندما عطّل جهاز اللاسلكي. واختبأ بإحدى الشقق لا يخرج هو أو روان إلا للضرورة.
وبعد احتفالات رأس السنة . . وما إن هلت أيام يناير 1966 الأولى، حتى انكشف أمر شبكته ضمن الشبكات التسع .. وجرى البحث عنه وتعقب آثاره في كل العراق.
كان يجهل أمر البحث عنه من قبل جهاز المخابرات – المكتب الثاني – فعلاقته بأعوانه كانت منقطعة طوال تلك الشهور الخمسة.
ولأن المجرم دائماً يحوم حول مسرح جريمته، تصادف أن توجه وروان لمنزل الكاظمية حيث يخبئ أجهزة التجسس. فاطمأن على وجودها، وفي المساء قاد سيارته وحده الى منزل بوشا القديم، فنام مرهقاً حتى الفجر، وأسرع بالعودة الى روان مرة أخرى وما كان يدري بما ينتظره.
ففي غبش الفجر اقتحمت المنزل قوات الأمن، وكانت روان بمفردها كالشبح.. متكورة كجنين ببطن أمه. . فلم تبد أية دهشة أوتصعق للمفاجأة.
سألوها عن عيزرا قالت بهدوء: "لن يتأخر"..
واعترفت من تلقاء نفسها بأنها جاسوسة إسرائيلية، استطاعت أن تجند جيش من اليهود العراقيين وسائر الملل بالغواية والجنس. وأرشدت عن مقبرة الضابط الطبيب بالحديقة الخلفية، وقادتهم الى مخبأ سري بداخله جهاز اللاسلكي المعطل وكتاب الشفرة وعدة كاميرات سرية، وأفلام ووثائق لم تبعث بعد للموساد.
كانت سيارات الأمن قد اختفت من المكان الذي بدا طبيعياً. واختبأ عدة ضباط بداخل المنزل ينتظرون الثعبان الكبير. وما أن جاء وخطا خطوات قليلة الى الداخل حتى هوجم وكبل في الحال.. واقتيد الى مكان سري للاستجواب، فاعترف اعترافات تفصيلية بنشاطه لمدة عشر سنوات لصالح الموساد، وسدت اعترافاته ثغرات عديدة كانت تحول دون الوصول لبقية الشبكات.
وبينما هو بالقفص، بانتظار سماع الحكم بإعدامه وروان شنقاً مع تسع آخرين، وبالرصاص خمسة عسكريين، نظرت اليه روان وقد أكلها الهزال وبرزت عظام وجهها، وقالت له إنها تشعر بالأسف على كل شيء. . لكنها سعيدة جداً لعدم إنجابهما أطفال يتعذبون من بعدهما طوال حياتهم. . حيث سيصيح الناس في كل شوارع بغداد: هؤلاء أبناء الثعبان والحية.. !!