يعيد شارع المتنبي للناس إنسانيتهم، فنراه يوطن بعداً رومانسيا حين يعيد تشكيل مكتبات الرصيف التي شهدت تحولات كبيرة أيام حصار العراق وحروب الدكتاتورية، كان الشارع ضاجا بصياح الباعة وكتب الاستنساخ، حتى أن ثقافة عراقية سميت" ثقافة الاستساخ"، دخلت ذاكرة وألسنة القراء، وعملت ورشات عمل للناس، مما يعني أن الشارع والقراء أحياء لا تمنعهم دكتاتورية من التحديق المستمر بحداثة العالم.. ثمة صورة واقعية هذه التي آراها الآن وأنا أتجول، على العكس من تلك الصورة المظلمة التي كان عليها الشارع قبل 2003، فالحركة الآن أكثر هدوءا بعد عودة الكتاب العربي والأجنبي إليه، الأسعار مرتفعة بارتفاع دخل القارئ،ولكن الكتب القديمة والمجلات وحدها هي التي تعيد تشكيل صوت الماضي الثقافي بأسعار أغلى، هذه التركيبة أحد مظاهر السوق الحديثة، والركض وراء الجديد يعيدك إلى القديم.
-5-
مالذي يحدث في شارع المتنبي الآن؟ ثمة تمظهرات جديدة تعيد تشكيل صورة مغايرة له، وفي مقدمتها عربات الكتب المتنقلة والأرصفة المشحونة بالعنوانات الكثيرة، القديم منها والجديد، تتصفح وأنت عابر، تتصفح وأنت تسير، تتصفح أنت تقرأ، تتصفح وأنت تتحدث، حتى بتنا نعيش دوران الحال وجوهنا أقفيتنا وظهورنا أجنحتنا، أما رؤوسنا فنزلت إلى مستوى أقدامنا وهي تقرأ العنوانات المرتصفة حسب الطول، كطلاب المدارس الابتدائية... وعندما فُجِّرَ شارع المتنبي بمفخخة مجرمي القاعدة، وقتلوا زواراً ومتسوقين وجلساء مقهى الشابندر والمارة، أرادوا تعطيل النمو فيه، تعطيل إعادة تشكيل ذاكرة القراء،هذه الذاكرة التي ستتحول لاحقا إلى أسلحة كاشفة عن الزيف الديني الذي يتمشدقون به سأقرأ رغما عنهم - باسم ربي..- بدأ شارع المتنبي شابا، تتجاور فيه الآن كل الأقدام المتحركة والساكنة،وثمة حركة في جوفه رافضة لأن يكون صورة لقاع للمدينة، أنه يتطلع لحداثتها، لنموها، لوجودها القادم، لهيبتها، للراوائح فيه، وللنساء، وللمقاهي، وللأصوات، وللموسيقى ولعبد الخالق الركابي وأمثاله... في الركن البعيد منه تقيم دار المدى على سطح مقهى الشابندر منتداها الثقافي، بهيئة وتصميم كاليري ومكتبة وكافيه، كأي مظهر أوروبي / شرقي يلائم بين السوق والمنفعة الثقافية..
-6-
أشارت ردود الأفعال التي أعقبت تفجير شارع المتنبي إلى جملة ظواهر على مستوى المسؤولين والناس العاديين، فالشارع ليس ممرا للسابلة، ولا هو مجموعة مكتبات تحتوي كتباـ فقط ، بل هو ذاكرة للحداثة موزعة بين الأزمنة العراقية كلها، ذاكرة محتفظة بخصوصيتها، ومستعدة لأن تنطلق مع بنية الدولة الجديدة، لتشكل صورة كبيرة عن عراق بدون مكبلات ، كان الشارع جزءا من هيمنة السلطة الثقافية على القراء وحريتهم، يشكل فرمان منع الكتب قطعا لشريان الثقافة والبناء، فما كان من مثقفي السلطة إلا أن يضحكوا وهم يرون خيرة المثقفين يبيعون كتبهم على أرصفة الشارع..، وعندما بدأت حرية الشارع تعود ويرتدي المثقف لباسه المعروف كإشارة إلى التغيير بعد 9 نيسان 2003، أصبح تدميره جزءا من تدمير بنية الدولة وحداثة القراءة، فالإرهابيون يخشون أي رمز ينهض من جديد.. سابقا حطموا المكتبة الوطنية وأحرقوها، وسرقوا ما تبقى فيها، نهبوا المتحف الوطني ودار المخطوطات والوثائق، وحرقوا أرشيف العراق الوطني وسجلاته المدينة، وخربوا وثائق الجيش العراقي ومؤسسات الدولة الثقافية الأخرى،نهبوا مؤسسة المسرح ووزارة الثقافة.. من هنا جاء تفجير شارع المتنبي تكملة لمعزوفة التدمير.
-7-
الصورة التي يرسمها تفجير شارع المتنبي،ماهي ألا ثورية جديدة يمكن استحداثها عن طريق القنابل والمتفجرات، والتاريخ لا يعيد نفسه إلا بصوره الدموية.. من عاش أحداث شباط 1963 كانت العناصرالمسلحة التي نزلت الى الساحة المحيطة بوزارة الدفاع مع سرب طائرات محلقة ومن ثم تم اعتقال رجل الدولة عبد الكريم قاسم، أمكنها أن تغير الوضع وتقلب الجمهورية الأولى بطريقة كاريكتورية، فما حدث يومذاك مجرد أفعال صغيرة لا يمكنها أن تصنع دولة ونظاماً، والتاريخ أثبت ذلك، لكن الإنهيار الأكبر ليس في مؤسسة الدولة يومذاك ، بل كان في الشارع العراقي، عندما قرر ألا يواجه سلاح المتمردين، واكتفى مقتنعا باقوال الزعيم عبد الكريم قاسم من أنها غيمة صيف تمر، وعدّ ما عنده كافيا لقمعهم، لكن المتمردين راهنوا على خمول الشارع ثوريا بعد أن تخدر الشارع بالكلام لسنوات أربع، وكان أن حدث حين أصبح الشارع الانقلابي محكوما من قبل مجموعة نقاط تفتيش خصصت للإعدامات.. ما حدث يومذاك هو في حقيقة أمره فوضى البندقية، اليوم يحاول مفجرو شارع المتنبي أن يعيدوا المعزوفة القديمة نفسها: مجموعة متفجرات تحدث صوتا، ستفرّ الناس إلى بيوتها، وسيستولون هم على مقاليد الشارع ...من هنا استورثت القاعدة ثقافة العنف كطريقة للتغيير، معتقدة أن يحصل مثل ما حصل عليه انقلابيو يوم أمس.
-8-
ما من نسمة حديثة تهب على بغداد إلا ونبتت بجوارها نار تُسخِّنها،هذا الشارع الذي كان اسمه يطغى على كتبه،كان في المرتبة الثانية بعد شارع الرشيد الضاج بالحداثة، والمارة الذين يسيرون مع جرف ومنحنى دجلة، لا يكسب الشارع اسما عظيما إلا متى ما اقترن بالشعبية، كان سوق المتنبي الاسم الشعبي العظيم لأنه شارع ممتلئ بكتب الباعة والمشترين، وفي زواياه يعشعش الناس بمختلف مكوناتهم فاصبح شارع المتنبي نقيا ومختصا بتحديث المدينة كما هو شارع النهر وشارع الرشيد، فما موجودعلى الأرصفة وفي الدكاكين الصغيرة،هو العلامة الدالة للحداثة.. اليوم يَسرق شارع المتنبي ويَسحب تلك الصفة من بنية شارع السراي وغيره، ويستبطن ثقافة شوارع المدن الأخرى في أحشائه، فبنية تعامد شارع المتنبي على مجرى نهر دجلة، اقوى من بنية الشوارع الأفقية مع النهر.
-9-
ثمة رسام ومصور وصحفي وناقد وقاص ومسرحي ومفكر في أحشائي، كل هذه المفردات تتجمع الآن لترى كيف أعيش التجربة، ربما ثمة نص مكاني سيكتب لاحقا هو تكملة لكتابي "شارع الرشيد.