صيف لبنان حافل جداً هذا العام، مهرجانات وحفلات وعروض محلية، عربية ودولية تضيء ليلاً، لذلك يقصده مئات المصطافين العرب والسواح من جهات العالم الأربع، شغفاً ورغبة في التعرف الى هذا الوطن الذي “شغل بأرزاته الكون”، حسب تعبير للشاعر الكبير سعيد عقل، كما بمعاركه السياسية والعسكرية في رأي المحللين والمؤرخين والمفكرين. “لبنان الفينيق”، استطاع هذا الصيف ان يجدد عهوده الذهبية، حيث كان درة الشرق، بناسه وتاريخه وحضارته وانفتاحه وحريته.
من صور الجنوب، الى جبيل الشمال، ومن بعلبك البقاع الى بيت الدين الشوف، وصولاً الى جونيه وزوق مكايل في بيروت.. وقبل هنا وهناك، تستمر بيروت، عروس المتوسط، حاضرة في البال والوحدان، تسرق من وجه الشمس اشراقتها ونضارتها، ومن زراق البحر وصفار رمالها سحرها واغراءها، وفي جميع الأحوال، توفّر لفناني الغناء والاستعراض والعزف، قديمهم وجديدهم، الساحة الأرحب لمزيد من الانطلاق والشهرة والاشراق.
أمام هذا الكم الهائل، من الذين حضروا وعرضوا، ومن الذين يستعدون لمواجهة جمهور لبناني عربي وعالمي متعطش للفن والأصيل والمميز، تستحيل الإحاطة بكل الاسماء الكبيرة، التي تتضمنها المهرجانات والحفلات، إنما بالتأكيد يمكن الإطلالة على من سبق لهم أن أحيوا صيف لبنان منذ خمسينات القرن الماضي، وعلى اولئك الجدد، الذين يجمعون على ان لبنان محطة مهمة في مسيرتهم الفنية.
والبداية من مهرجان صور الذي افتتح مهرجانات هذا الصيف، ولأول مرة، بحنجرة الفنان التونسي وعازف العود المبدع لطفي بوشناق. وإذا كان الجالس أمام المدرج الروماني، مشاهداً فصول مهرجانات صور لا يستطيع أن يهرب من التاريخ، كذلك الحال بالنسبة لصوت بوشناق وآلاف المستمعين لمن جمع في حنجرته ألواناً متعددة من الغناء التراثي والابتهالات الدينية حتى التطريب وانفلاتات الجاز والبلوز، ومن أغاني الكبار الى الشباب والأطفال، وأخيراً من الأغاني الثورية الملتزمة الى أغاني الغزل. مروحة واسعة لم تتسع لصوت بوشناق في صور الذي صدح على مدى ساعتين وأكثر. ومع أنه صاحب الأغاني الكثيرة التي تلائم وجوده في القلعة الرومانية والمدينة التي احتضنت التاريخ القديم والمقاومة اللبنانية وجارة قانا الجريحة، أبى بوشناق أن يدخل صوته في السياسة، فهو لم يأت صور فاتحاً ولا مغنياً خطيباً.. ولذا لم يغن” قانا” ولا “ساراييفو” ولا “الحلم العربي” ولا “القدس”، وهو الذي أهدى مهرجان قرطاج 2006 الى لبنان وغنى لإغاثة غزة ودعم المقاومة، لكنه لم يتخل في أمسيته الجميلة الصوت والأجواء والحضور، عن الأغاني التي تسخر من المسؤولين العرب، خصوصاً أغنية “تكتيك” التي دفعت الجمهور الى موجات تصفيق متلاحقة.
وعموماً، آثر بوشناق تغليب الغزل في هذه الأمسية على نكء جراح المدينة ومنطقتها وجراح العرب، وحلّق مع كلمات شاعره التونسي المفضل آدم فتحي في أغنية “لو كان الريح جناحاتي”.
وفي بيت الدين، داخ الجمهور بصوتين، الأول عربي مصري تجلى بحنجرة آمال ماهر بأغنيات مصحوبة بأوركسترا سليم سحاب التي أعطت الموسيقا روحها، وهي صوت قوي عاد بنا الى أجواء الطرب الأصيل، بأغنيات أم كلثوم بدءاً من “انت عمري” لعبد الوهاب، ثم “سيرة الحب” لبليغ حمدي.. ولم تبتعد آمال عن الأداء الكلثومي إلا في بعض الانفرادات التي حاولت من خلالها أن ترسم بها أسلوبها الخاص، وإذا كانت المطربة الشابة نجمة السهرة المباشرة، فإنها أحيت في الوقت نفسه ألحان الخالد عبدالوهاب ب “دارت الأيام”، كما حلّى الملحن العبقري الآخر رياض السنباطي برائعة “الأطلال”، ومعها استعاد الجمهور شعار المصريين “عظمة يا ست”، وكأنه يعبّر عن حالة حنين الى عصر ذهبي بات اليوم بعيداً.
الصوت الثاني نقلته حنجرة فرنسية عبقت بتاريخ الكلاسيكية الرومانسية المرهفة، وهو شارل ازنافور، الذي أخذ حتى وهو في أواسط ثمانينات العمر، الجمهور الى مطارح العشق الأخرى، النبل والشهامة والرقة والحنان.
وعلى مدارج بعلبك ثلاث اضاءات. صوت فاني اردان التي سبق أن تعاقدت مع آلهة الشمس ودخلت معها أسطورتها وتاريخها وحضارتها، والعازف العالمي دافيد فراي مستعيداً سمفونيات باخ الخالدة، واستعراض “اوبرا الضيعة” لفرقة كركلا.
لا بد أن الممثلة الفرنسية فاني اردان ادركت أي مهمة شاقة تنتظرها في بعلبك، وانها يجب تختصر بصوتها معاناة اثنتين من التراجيديا اليونانية، فيملأ معبد باخوس بروائع جان راسين واوروبيدس، ويصعد مباشرة الى السماء في ليلة اختلطت فيها صور المأساة مع سحر القمر والنجوم وأصوات آذان وعصافير سنونو لم تبعدها الملاحم الاغريقية عن الأعمدة التاريخية، انصهر المكان في العرض وصار جزءاً منه. الأصح رفع معبد باخوس التراجيديا الى أعلى درجات المأساة، فكانت تحية اردان الختامية عن بعلبك من شعر نادية تويني. شكر بلغة المكان.
طوال العرض، لم يتسلل صوت اردان خافتاً بل أتى صريحاً واثقاً، أمسك بحواس الحضور كلها ولم يفلتها الا بعد انتهاء العرض.
وفي الهياكل نفسها، عاشت فرقة كركلا اللبنانية العالمية “اوبرا الضيعة”. وكما العنوان، تجري الأحداث في ساحة ضيعة صغيرة، عن حكاية حب تتحول الى صراعات وتناحرات وانقسامات تؤدي الى افتعال فتنة.. انها المأساة اللبنانية بألوان فولكلورية صاخبة وهادئة أحياناً، العمل وقعّه إخراجاً ايفان كركلا، وهو ابن مدرسة ارتكزت على التراث والفولكلور واعتمدت التقنيات المعاصرة. كتب العمل الشاعر طلال حيدر، السيناريو وتصميم الأزياء تولاهما عبد الحليم كركلا، الكوريغرافيا ابدعها اليسار
كركلا والتوزيع الموسيقي للإيراني محمد رضا عليضولي.
وتبقى مهرجانات صيف لبنان 2009 مستمرة، وكذلك حفلاته بنجومها المحليين والعرب والعالميين، وقد تتمدد عروضها لما بعد الصيف، ومادامت البلاد تتمتع بالأمن والاستقرار، ستبقى بعيدة عن المهرجانات السياسية والعسكرية، التي باتت عرضاً سخيفاً ملّه اللبنانيون فكيف بضيوفه ومصطافيه؟