شــارع المتـنبـي
ياسين النصير
-1-
إلى أين ستؤدي بك الطرق المتعرجة المسيجة بقطع الكونكريت الثقيلة؟ إلى أين؟..إلى المدينة؟ أم إلى المكتبات؟ أم إلى البحث عن مسقط جديد للرأس؟
قال صديقي الفلسطيني: لماذا عدت؟
قلت له: لأتفقد مسقط رأسي.
قال: وهل لك بيت حتى تتفقد فيه مسقط رأسك؟
قلت: كان لي بيت اسمه العراق، وها أنا أعود لاسترده.
قال: أحلامك محبطة، عدْ ياصديقي من حيث أتيت، فقد احتلت مساقط رؤوسنا من حيث لا ندري.
ثمة صمت يغلف لساني نظرت إليه بعينين ثاقبتين، ثم أدرت مسار قدمي باتجاه جوف الشارع.
قال: (حرامات) أن تكون قناعتك بمثل هذه السذاجة.
-2-
سألت نفسي وأنا أخرج من بيتي ، إلى أين أنا ذاهب ؟ هل أقصد شارع المتنبي، هل تقذفني الجولة إلى المنطقة السفلى من قاع المدينة لأرى المتسولين وباعة الفشافيش وصباغي الأحذية والعمال المصريين، هل تغور قدماي في وحل المدينة بحث يغطي عيني غبار الأزمنة القديمة، فأرى الأشباح والعربات والنفايات وهي تحتل الشارع؟ هل أبحث عن روائي ما بعد غائب طعمة فرمان ليكتب ملحمة الأمكنة العراقية المنهارة؟ماذا سأجد هناك؟ شارع الرشيد الذي يحتاج إلى أكثر من كتاب كي يقرؤه القادمون من الأجيال؟ هل أبحث عن مدينة منهارة أم عن صورة لمدينة متخيلة؟ومن أين ستعيد بيتك النقدي؟ من وسط هذه الخرائب والبنادق والمليشيات أم تتوسل لبناء المدينة الحديثة بالمحلات الطارئة التي شيدت نفسها في المناطق الغلط؟ لا أحد يعينك على رؤية ما يمكن أن تراه بنفسك، ولذلك قصدت الشارع لإبحث عنها في داخلي واترك ما أراه نهبا للأعين المتربصة وللمستغلين الذين لا يعيشون إلا على خرائب المدن.. أفتح عيني وأتعمق في الصورة التي يلتقطها فؤاد شاكر وسأرى بغداد على حقيقتها، مدينة تئن من وجع مصادره كثيرة.
قلت: سأذهب إلى تلك الأماكن التي يجتمع فيها الثوري والإرهابي: ماركس وابن لادن،العقول البدائية القادمة من فترة الحكم الفارسي والعثماني،المتجمعة كالغيلان في الأزقة كي تقفز وبأيديها المتفجرات، والعقول العراقية الساكنة على الضيم وهي تعيش حال الدمار الشامل الذي سببه المحتل، والعقول القادمة من بلدان الثلج والخضرة والتي تحمل في حقائبها خطط التنمية والحداثة.. قلت أنا ذاهب إلى أحد مساقط رأسي،إلى شارع المتنبي، إلى هناك حيث أبحث عن القديم الذي شكّل ثقافة الجسد، وعن الجديد الذي يبني ثقافة العقل ، فبغداد لن تبنى بالمليارات المنهوبة من قوت المواطنين، بل تبنى بإعادة الحياة إلى شرايينها المتقطعة، إلى تلك البنى القديمة / الجديدة كي تعيد تضميد جراحها..عدت وكلي أمل ألا تتعثر خطواتي بمن يفسر وجودي ثانية بأنه غزو ثقافي، عدت كي أواصل مشروعي الذي نبتت شتلاته هنا،جئت كي أسقيها بالتجربة والمعاينة فقد نبتت في البستان أشجارجديدة تحمل ثمارالحروب والكروب،هذا النبت الشعري والقصصي والتشكيلي والروائي يزاحم عيني وأنا أتصفح جرائد اليوم والكتب، نبت أقل ما فيه أنه طالع من محرقة الحروب والسجون، يحمل لغة وتصورات جديدة، وبالتأكيد سأصطدم به في شارع المتنبي ومكتباته وأرصفته،وسيكون ثمة حوار لي معه عن الغد القادم من جوف الأمس، عدت كي يرونني أنا صديقهم ومرافق تطلعاتهم وقلمهم الذي كان ولايزال لهم..عدت لمسقط رأسي.
-3-
ثمة مساقط عديدة لرأسي: مسقط الرأس في قرية الشرش / قضاء القرنة،حيث ولد جسدي صغيرا مقمطا بحبال الخوص والقنب، في هذا المسقط تشكلت أحلامي الأولى حيث المرآة التي شكلت وجه التفاتتي الأولى إلى ذلك المسقط القروي، حتى وأنا في لاهاي، وفيه بدأت أولى ملامح وجهي المراقب لأي جديد خارج القرية، فالقرية تبحث عن وجودها في السكون، وما أن هلت عليها أولى رياح للتغيير، وكان ذلك في الخمسينيات، حتى وجدت نفسي مرتديا البجامة المقلمة كأول كائن خرافي في القرية يتمظهر بها أمام فتياتها، ثم قافزا من القرية إلى البصرة ومن ثم إلى بغداد، وها أنا في هولندا، حاملا معي رحلة القرية التي لا تزال تشدني إليها، عائدا هذه المرة في العام 2009 أبحث عن سجل النفوس الذي أنكرتني فيه موظفة قائلة: أنتم مهاجرون لا جنسيات لدينا لكم إلا عندما تعودون ثمة مسقط ثان للرأس لي في المدرسة الإبتدائية، ( دار... دور)، ومنها تشكل جسد اللسان الذي بقي يقرأ ويدندن ويقول،في هذا المسقط اكتشفت فيه الملك فيصل الأول في صورته التي تواجه درسنا اليومي، كنت أتأمل عقاله ووجهه الطولي وابتسم بأن أمني نفسي بموقع مثله، معلق فوق السبورة ويطل على دفاتر الطلاب، وقد يقرأ معنا ما نقرأ. وثمة مسقط ثالث لي في ثانوية القرنة، نرحل إليها على دراجات خربة، ونمر بشجرة آدم، نلتفت يمنة ويسرى كي نقتلع من جذعها قشرة نتبارك بها، هكذا كانت أمهاتنا تنتظر عودتنا من المدرسة في البيوت لنعود بهذه القشرة المباركة.. وفي ثانوية القرنة شاهدت لأول مرة في حياتي مسرحية " فاوست" لغوته،من تمثيل الناقد خيري الضامن والمرحوم الفيلسوف صبري هادي وعبدالعالي وآخرين، ومعها المنشور الحزبي الأول الذي قرأته ضد حكومة نوري السعيد، سيعيد العرض المسرحي والمنشور السياسي وعيي بالحداثة بعد نصف قرن وأنا في لاهاي، وكأن الطلبة يومذاك في أواسط الخمسينيات يفكرون بالحداثة الفكرية،- خيري الضامن(ناقد) وصبري هادي(فيلسوف)- وعبدالعالي معلم ثوري وابن فراش المدرسة الذي نحبه، نوجه صباح كل يوم تحياتنا، في ثانوية القرنة هتفت لأول مرة في حياتي بسقوط حلف بغداد، ثم استدعيت لأول مرة للتحقيق معي في مركز شرطة القضاء.
وثمة مسقط رابع للرأس في دار المعلمين الأبتدائية في البصرة حيث تجمعت فيها ثلاث بنى كبيرة: إطلاق أول مركبة سوفيتية إلى الفضاء 1956، وهذا يعني انتصار لأفكارنا الماركسية، ونشوة نتباهى بها بين أقراننا وكأننا نحن صناع هذا الحدث التاريخي ليصبح غاغارين واحدا منا في الدرس اليومي..ثم ثورة تموز1858، التي بدأت عصر الإنقلابات في العراق، ثم بدء كتابة المسرحية والتمثيل في مسرحية " حمدان وفاشية الأسبان" ومن اخراج محمد الرديني.. في دار المعلمين تشكلت أولى ملامح الفكر اليساري عندي، نحن فصيل يساري شاب. احتفلنا بمجيء القائد مصطفى البرزاني إلى البصرة، ثم شاركنا في المقاومة الشعبية ثم لوحقنا أمنيا حتى استقر المطاف بنا التخرج في دار المعلمين العام 1959 ولا يزال عمري في السابعة عشرة. أهم ما يشكل صورة لحياتي الجديدة وأنا في مدينة البصرة هو اكشافي لماعون السلاطة الجديد ولهذا الإكتشاف المذهل قصة طريفة سأرويها في مقال خاص.
ثم كان مسقط رأسي الخامس في الجامعة -المستنصرية - قسم علم النفس- التي لم أكمل الامتحان النهائي ،حيث أعتقلت العام 1975 والجبهة الوطنية قائمة، وفي هذا المسقط تعرفت على بغداد والمرأة: عالمان جديدان. وتشكل حياتي في بغداد بحثا عن المدينة في المكان وعن المكان في النص فكانت جولة مزدوجة: حزبية كثيفة الحضور، وثقافية أكثر حضورا في الأنشطة والقراءة والكتابة، وانغمارا كليا في التعليم وبحثا عن أفق للذات بمعزل عن كل الملحقات التي فرضها علي ّ مسقط الرأس الجديد.
ثم مسقط سادس للرأس في المهاجر:الأردن ثلاث سنوات ونصف كان مصحوبا بالمرض والفاقة ،وهولندا حيث العلاج حاملاً معي كل تلك المساقط علامات في وريقات جواز سفر غير مزور. وثمة مسقط سابع للرأس في السجن وثامن في المعتقل ولو أن هذه الأمكنة تأتي مرتبطة بحالات القمع،لكنها واحدة من أمكنة قمع الجسد.
بعد سبع عشرة سنة من الهجرة،أعود بالجسد المنهك إلى بغداد وهو يحمل تلك المساقط ليحط رحال أحلامه في شارع المتنبي ثانية.
-4-
ترتبط هذه الأمكنة بالنشوء واليفاعة والشباب والثبات والاحباطات وكل ما يشكل ملامح لذات قلقة باحثة عن نفسها وسط ركام وتطلعات السنوات الماضية، تمشي وأنت مفتح العينين لترى المدينة وتحولاتها، الأسواق وبضائعها، وتمعن كثيرا في ذاتك فلم تجدها قد حققت ما تريد، وثمة أسئلة كبيرة تحملها وأنت تدخل اجتماعا حزبيا أو تخرج منه لتسأل وماذا بعد؟، عدت بتلك الحال التي تتساوى فيها الأزمنة القديمة بالجديدة، لا تبدو هذه الأزمنة متتابعة، بقدر ما هي متداخلة.. ترى الأمس في اليوم والغد في الغد القادم، وأنت ما بين هذه الأزمنة الجزئية والكلية لا تملك إلا أن تلتفت يمنة يسرة، فلا ترى غير نفسك كطير مهاجر في مساقط رأسك. لكن أن يكون شارع المتنبي المسقط الأخير للرأس، فهذا ما جعلني أعيد تكويني ثانية فيه، فهو لايأتي في أحلامي كمسقط رأس الولادة،ولا في ذكرياتي كمساقط الرأس الأخرى، بل هو المسقط الذي يعيد تكوين ذاكرتي من جديد، وها أنا أتلمس أرضيته التي تفترشها الكتب والعيون والكاميرات.. في شارع المتنبي أنظر لنفسي كأية سلالة توشك على الإنقراض، فأجد بعضي منفرشا على الرضيف والبعض الآخر في عيون الأصدقاء والباعة ومن يتعرف عليك أو من يسأل عنك.