حدث في بغداد - حدث في لندن
(صوت العراق) - 26-08-2009
بقلم: بهجت عباس
حدث في بغداد – حدث في لندن
في مقاله الحزين الغاضب ، وله الحق كله ، المنشور يوم أمس في صوت العراق (قذرون و أنذال هؤلاء العراقيين الجدد ..) يذكر الأستاذ مهدي قاسم :
"أفاد أحد المصابين في تفجيرات يوم الأربعاء لإحدى الفضائيات بأنه أضطر أن يدفع خمسة وعشرين ألف دينارا للمسعفين كرشوة لتوصيله إلى المستشفى بسيارة الإسعاف ، غير إن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، إذ وجد نفسه مضطربا أن يدفع في المستشفى أيضا مبلغا من المال بغية الاهتمام به و إسعافه .."
حدث هذا في أرض الأنبياء والشمس والقمر. أما ما حدث في بلاد الكفر والضباب والمطر ، فيختلف تماماً . وما سأذكره الآن قد يقول بعض من يقرأها إنها حادثة فردية! هي ليس كذلك بل إنها حدثت وتحدث كثيراً ، كما أعتقد ، وهذه تجربتي الشخصية أسردها دون رتوش . ذلك في رحلتي الأخيرة إلى لندن ، سكنت في شرقها وفي منطقة تدعى كناري وارف تقع على نهر التايمس . كنت أخرج لرياضة المشي بعد كل وجبة طعام بساعة لحرق السكر ولجعله بمستوى طبيعي في الدم ، لأني لا أستعمل أي دواء لمرض السكر الذي ابتليت به ، فحافظت على هذا المستوى خلال التسع سنوات المنصرمة. وعندما أذهب خارج كندا أمارس هذه الرياضة طبعاً . هذه المرة ، في لندن وفي شرقها كان لي عادة طريقان للمشي ، أحدهما على كورنيش نهر التايمس الذي لا يسلكه إلا بعض هواة المشي والهرولة ، وهم قلة ، إلى نهايته التي تتطلب أربعين دقيقة وهي حدود مدينة كرينيتش Greenwich الشهيرة بساعاتها وتوقيت بريطانيا عليها ، والتي تصلها خلال نفق طويل تحت التايمس . والطريق الثاني هو مانجستر رود الموازي للكورنيش والتي تسير علية الباصات العامة والسيارات والمارة . يربط بين هذين الطريقين شوارع فرعية. كان ذلك قبل خمسة أسابيع تماماً ، عندما خرجت من الشقة ذلك الوقت وكان مساءً أردت أن أسلك شارع مانجستر رود ، ولكن (هاجساً) فيّ أوحى لي أن أسير في الكورنيش مدة عشر دقائق وبعدها ، عند وصولي المطعم الهندي ، الذي يقع في ركن شارع فرعي ، أسلك ذلك الشارع الفرعيّ إلى مانجستر رود وأكمل السير فيه. عندما وصلت هذا الركن قلت في نفسي : دعني أواصل السير في الكورنيش خمس دقائق أخرى قبل أن أحوّل اتجاه مسيرتي . إنه القدر! توجد في الغيب أشياء لا يستطيع العقل تفسيرها . لماذا غيّرت فكري وأردت مواصلة السير في الكورنيش بضعة أمتار لأعثر بصخرة ناتئة وأسقط على وجهي سقوطاً لا رحمة فيه حيث تفجر الدم من جبهتي ! ولكن القدر كان من جانبي أيضاً ، حيث في أحد أركان الكورنيش كان أربعة فتيان تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والثامنة عشرة يتحادثون فيما بينهم ، ولما رأوني سقطت أتوا إليّ مسرعين ، فرفعني أحدهم من على الأرض وسألني Are you OK? ، أجبته أنا بخير ولكني أنزف ، فأسرع آخر إلى المطعم وأتي بمناشف ورقية وضعتها على جرحي فامتلأت فأتى بأخرى . اتصل واحد منهم بالإسعاف وآخر بزوجتي وابنتي اللتين أتتا بسرعة .. أتى الإسعاف الأولي paramedic في مدة 15 دقيقة تقريباً بمضمديْن اثنين . فحصا الجرح وضمداه ، وفحصا السكر وضغط الدم والعينين والإذنين وغير ذلك وأخذا يتحدثان معي بلطف ودماثة أخلاق وكان الشبان الأربعة حاضرين وبعض الناس المارة إلى أن أتت سيارة الإسعاف بسائق ومضمد أخذاني وزوجتي وابنتي في السيارة إلى المستشفى التي وصلناها خلال ازدحام لندن الرهيب .. وخلال فترة السياقة كان المضمد يتحدث إليّ ، ولما عرف أني من العراق ، قال إن حضارتكم أقدم من حضارتنا (البريطانية) ، فكتمت ابتسامة سخرية وأنا أرى الفوضى والفرهود الذي لم يُسبق له مثيل . في المستشفى فحصني الطبيب وأخبرني أنه سيتصل بالجراح المختص ليأتي ويعالج الجرح. بعد ساعة أتى الجراح ، وكان طبيباً شاباً لطيفاً عالج الجرح وخيّطه ستة خيوط وقال لي بأن آتي إليه بعد أربعة أيام للفحص. ولما أخبرته بأني عائد إلى كندا بعد ثلاثة أيام ، قال لا مشكلة في ذلك إذ أن طبيبك هناك سيزيل الخيوط بعد أسبوع. أعطاني مرهماً وودعني بابتسامة . كم دفعت من مبالغ لقاء هذه الخدمات الجليلة ؟ لا شيء !! كنت زائراً ، ولم أكن مقيماً في بريطانيا وليس لي ضمان صحي أو تأمين من أيّ شركة ، ولكنهم لا يأخذون أيّ مبلغ من أي شخص يزورهم ويصاب نتيجة حادث طارئ . هو القانون المبني على احترام الإنسان . والفتيان الأربعة النبلاء ، الذين ساعدوني من كل قلوبهم ، وحاولوا بكل الطرق أن يخففوا عني الآلام ، هل أستطيع أن أكرههم لأنهم إنكليز أو نصارى أو يهود أو لادينيون ؟ وأحترم ذلك الخسيس الحقير الذي ذكره الأستاذ مهدي قاسم في مقاله والذي طلب 25 ألف دينار ليسعف أخاه في الدين والوطن وإلاّ فسيتركه يعاني من الألم قبل أن يموت وهو يعلم أنه ضحية تفجير إرهابي مجرم ؟ ، هل أحترمه أو أحبه لأنه عراقي و مسلم ؟
يقول المتنبي
وكلّ امرئ يولي الجميل محبّبٌ **وكل مكان يُنبتُ العـزَّ طيِّبُ