علي حسن سلامة
كانت الحياة في بيروت آنذاك يونيو (حزيران) 1973) لها مذاق رائع، ومع عطلة نهاية الأسبوع تزهو أجمل فتيات لبنان داخل الفنادق والأندية، وحمامات السباحة، يلعبن الغولف والتنس،
ويرقصن الديسكو، ويشاركن في مسابقات الجمال.
وسط هذا الجو الذى يموج بالمرح والحسن والشباب، اعتاد علي حسن سلامة أن يعيش بعض أوقاته، يرافقه أحياناً فتحي عرفات، شقيق ياسر عرفات، رئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
عندما اختيرت جورجينا رزق ملكة جمال الكون، اختطفها سلامة وتزوجا في حدث كان له صدى كبير، مما جعله مطاردا دائماً من فتيات لبنان، لكنه كان مشبعاً بكل جمال الدنيا بين يديه، ولأن
المخابرات الإسرائيلية كانت تجهل صورته أو ملامحه، وفشلت كثيراً في اقتفاء أثره لاغتياله، خصوصا بعد عملية ميونيخ بالذات، فقد كان المطلوب من أمينة التسلل إلى مخبئه والحصول على
قوائم بأسماء قيادات وعملاء المخابرات الفلسطينية في أوروبا. كان سلامة أحد مساعدي عرفات والمختص بحراسته، ثم أوكل إليه الاخير بمهمة جديدة، وهي رئيس الأمن والمخابرات التابعة
لمنظمة فتح وقوات الحرس الداخلي - التي يطلق عليها القوة 17 - وهي القوة التي أطلق عليها عرفات اسم «المنتمين إلى قيصر روما القديمة»، والحصول على القوائم السرية للقيادات
الفلسطينية والأعضاء البارزين في المنظمات في أوروبا، أمر مهم جداً ومطلوب لتفكيك أوصال القيادة في بيروت وعزلها عن الآخرين في كل قارات العالم، وفي هذا إجابة عن سؤال: لماذا السطو
على أوراقه بدلاً من اغتياله؟
هكذا كانت مهمة أمينة في بيروت، مهمة حساسة للغاية، لو استطاعت القيام بها فكل ميادين إسرائيل لا تكفي لوضع تماثيل لها فيها، وفي لقاء حميم بشقتها مع الحايك، سألته عن عرفات وأبو
إياد وغيرهما، فأجاب بأنه يعرفهم جيداً، ولأيام طويلة ظلت تمنحه جسدها، وتنفق عليه بسخاء عندما أكد لها أنه يعرف سلامة، بل والفندق الذي يرتاده، فاصطحبته مراراً لفندق كورال بيتش ليدلّها
عليه، لكن الأيام تمر والحايك يستمتع بجسدها وبأموالها من دون أن يظهر لسلامة أثر.
تملّكها يأس قاتم لفشلها، وفكرت كثيراً في مغادرة بيروت إلى تل أبيب تجر أذيال الخيبة، لكن طرأت في خيالها فكرة جديدة عملت على تنفيذها بأسرع وقت، إذ انتقلت إلى شقة أخرى في كورنيش
المزرعة، وهي منطقة شعبية يرتادها التجار من قاطني المخيمات الفلسطينية في بيروت. للوهلة الأولى أحست بتفاؤل كبير، بعدما تعرفت الى ممرضة فلسطينية تدعى شميسة، تعمل في عيادة
«صامد» بمخيم صبرا. قدمتها شميسة إلى مدير العيادة، الذي أوضح لها أن أطباء كثرا من كل دول العالم، يشاركون في علاج الفلسطينيين كمتطوعين، فعرضت عليه أمينة خدماتها التطوعية
وأطلعته على شهاداتها المزورة فطلب منها الانتظار لأيام عدة حتى يخبر رؤساءه. جاءتها أخيرا الفرصة الذهبية للامتزاج بالفلسطينيين، وبدأت مرحلة العمل التجسسي الأوسع.
أمينة المفتي.. استخدمت المصحف الشريف ليكون شيفرتها الخفيّة
مساء 22 يوليو (تموز) 1973، رن الهاتف في شقة أمينة المفتي، وكان على الطرف الآخر مارون الحايك، الذي أسر إليها ببضع كلمات ألجمتها، فوضعت السماعة بتوتّر وأسرعت تفتح
التلفزيون، لقد صدمها المذيع وهو يعلن نبأ اعتقال ستة من رجال الموساد في أوسلو، بينهم امرأة، بتهمة قتل «غرسون» مغربي بالرصاص، ظنوا أنه الفلسطيني علي حسن سلامة، وقد اعترف
المعتقلون بأنهم ينتمون إلى الموساد، ويشكلون فيما بينهم فريقاً للقتل اسمه الرمح، وجاؤوا خصيصاً من إسرائيل لتعقّب سلامة واغتياله. ارتجّت أمينة وتملّكها الهلع على مصيرها، وتساءلت:
لماذا يتعقبون سلامة لاغتياله بينما طلبوا منها خلاف ذلك؟
كانت اللعبة أكبر بكثير من تفكيرها، فأمور السياسة والمخابرات تتشكل وفقاً لمعايير أخرى وحسابات معقدة، وللمرة الأولى منذ فقدت زوجها موشيه، تشعر برغبة أكيدة في الاستمتاع بالحياة،
فأسرعت في اليوم التالي، برفقة الحايك إلى فندق الكورال بيتش، متلهفة إلى الالتقاء بسلامة. أخذتها المفاجأة عندما أشار الحايك ناحية حوض السباحة قائلاً لها: أنظري.. هذا علي حسن سلامة.
في ذلك الوقت، كان سلامة في 33 من عمره، رياضي.. وسيم.. أنيق، يصادق جورجينا رزق ملكة جمال الكون، وهي فتاة عمرها 21 عاماً، تنحدر من مؤسسة المال المسيحية في بيروت لأب
لبناني وأم مجرية، انتخبت في السادسة عشرة من عمرها ملكة جمال لبنان، وبعدها بعامين ملكة جمال العالم، وكانت الوحيدة من بلاد العرب التي دخلت مسابقة «ميامي بيتش»، وهكذا أصبحت
رزق أشهر امرأة في العالم، يحلم بها كل الرجال، وكان الجميع يريد التعرف الى الفتاة ذات الشعر الأسود الطويل، والعينين الخضراوين، والجسد الأسطوري. حتى جيمي كارتر- حاكم ولاية
جورجينا وقبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة تحققت أمنيته وظهرت صورة له مع ملكة جمال الكون وهي ترتدي فستان السهرة الأسود. انشغلت رزق بالفتى الوسيم مفتول العضلات ذي الجسد
الرياضي الممشوق، وانشغل بها هو أيضا.
جلست أمينة تراقب سلامة بحذر وهو يستحم، وعلى مقربة منه وقف رجلان من حراسه تنتفخ أجنابهما بالسلاح. رسمت صورته في خيالها، وداومت على زيارة الكورال بيتش مرتين أسبوعياً
بشكل منتظم، وكانت كثيراً ما تلتقي بسلامة الذي اعتاد رؤيتها، وابتسامتها وجمالها البسيط الهادئ، وذات مرة وصل إلى الفندق واتجه إلى الداخل حيث حجرته، لكنه عرّج فجأة على مائدة أمينة
وانحنى على ظهر المقعد المواجه في أدب وسألها أسئلة عدة، ثم سحب المقعد وجلس قبالتها لأكثر من نصف الساعة.
بواسطة سلامة، انفتحت أمام أمينة كل الأبواب الموصدة، إذ أصبحت محل ثقة الفلسطينيين، طالت علاقاتها بالقادة ياسر عرفات نفسه، فاستعادت حيويتها وثقتها بنفسها وانخرطت في صفوف
المقاومة تضمد الجروح وتبث فيهم الحماسة والاستماتة في الكفاح. كانت زياراتها المتعددة لمخيمات اللاجئين في الجنوب، بصحبة مجموعات طبية من المتطوعين، تذكرة أمان لدخول كل المناطق
المحظورة، فكانت عيناها كاميرات تلتقط الصور وتختزنها، وأذناها أجهزة تسجيل متطورة، انقلب عقلها إلى آلة جبارة من القوة بحيث لا يرهقها تزاحم المعلومات، أو رسم الخرائط بدقة متناهية،
أو حفظ مئات الأسماء والمواقع، أو تذكّر أنواع الأسلحة وأساليب التدريب. لم تدخر جهداً في البحث عن كل ما يهم الإسرائيليين في لبنان. زارت ياسر عرفات في مكتبه ثلاث مرات لتطلعه بنفسها
على سلبيات عدة واجهتها في الجنوب اللبناني، واهتم الزعيم بمقترحاتها وأفرد لها مساحة طويلة من الوقت للاستماع إليها. أوصى في الحال بالتحقيق مما قالته، وتلافي الأخطاء التي تعوق
حركة المقاومة في الجنوب، فتقربت أمينة بذلك من الزعيم الفلسطيني وأصبح مكتبه مفتوحاً دائماً أمامها.
لقاء مع جاسوس الميج
حدث أن كانت في مقهى «الدولشي فيتا»، حيث شاطئ الروشة المتعرّج الخيالي، حينما توقفت فجأة أمامه سيارة جيب عسكرية، ونزل منها ثلاثة رجال فلسطينيين، اتجهوا مسرعين إلى حيث
تجلس تشرب أمينة القهوة، واصطحبوها إلى مخيم شاتيلا للمساعدة في علاج مصابي إحدى الغارات الإسرائيلية.
بعد أن أنهت عملها في مستشفى مخيم شاتيلا، استأذنت للسفر إلى فيينا لتسجيل اسمها لدى إحدى جمعيات الطفولة الدولية (!!)، وهناك تخلت أمينة عن أهم قواعد العمل التجسسي، وهي السرية
المطلقة، وتفاخرت أمامهم جميعاً بأنها تثأر لموشيه كل يوم من القتلة العرب وتنتقم منهم دونما رحمة أو شفقة، وقصّت عليهم الكثير من أسرار عملياتها في بيروت، وبجواز سفرها الإسرائيلي،
طارت أمينة إلى تل أبيب تحمل جرعة هائلة من الغضب.
لم يكن لها أصدقاء في إسرائيل، سوى نفر قليل من رجال الموساد، الذين فوجئوا بها وقد بدا عليها الإرهاق، طلبوا منها أن تستريح في شقتها حتى تهدأ. صاحبتها طبيبة نفسية يهودية من أصل
عراقي تدعى زهيرة، كانت مهمة الاخيرة ألا تفاتحها في أمر إنهاء خدمتها، فهي ليست منوطة بذلك، ولكن تنحصر في إذابة جدران العزلة النفسية التي تحيط بالعميلة، بدمجها تدريجياً باليهود
العرب وخلق محيط اجتماعي موسّع من حولها، لقد حدثتها صديقتها الجديدة عن المهاجرين العرب من اليهود، الذين قدموا من شتى الأقطار المجاورة، وكيف استساغوا العيش في المجتمع الجديد
المتحرر، وعن بعض المسيحيين الذين فروا إلى إسرائيل طلباً للحرية والأمن. من بين الذين ذكرتهم، النقيب الطيار منير رضا المسيحي العراقي الذي فر الى إسرائيل بطائرته الحربية الميج ـ 21،
وعرضنا لقصته في الحلقتين الثانية والثالثة من هذه السلسلة، وعندما أبدت أمينة رغبتها في لقائه، عرضت زهيرة الأمر على رؤسائها فجاءتها الموافقة، ورتِّب اللقاء في منزل منير بين زوجته
وأولاده.
كانت أمينة في شوق بالغ للقاء الطيار الهارب، ليس لأنه عربي بل لتسأله عما يجول في خاطرها من تساؤلات قد تفيدها معرفة إجاباتها، وبابتسامة عريضة على باب منزلهما، رحب منير
وزوجته بأمينة. كان منير في ذلك الوقت في الثامنة والثلاثين من عمره، غزته مقدمات الصلع، وكانت مظاهر الثراء بادية جداً على المنزل وأهله، قال لها منير إنه مر بحياة عصيبة في البداية،
حيث كان يجهل العبرية وبلا عمل ولا أصدقاء، ويتابعه كظله رجلا أمن في الشارع والبيت، ثم عمل لبعض الوقت في جيش الدفاع، والآن يمتلك وكالة إعلانية كبيرة خاصة به اسمها الأضواء،
وتعمل معه زوجته كمديرة لمكتبه وللعلاقات العامة، سألته أمينة: كيف يفشل طيار محترف في القفز إذا أصيبت طائرته في الجو؟ وهل طائرة سكاي هوك الأميركية تتحول إلى مقبرة لقائدها قبلما
تسقط؟ أفاض منير في الشروح وأوضح لها أن طائرة سكاي هوك التي طار بها موشيه اعتُمد تصميمها على حماية الطيار، وهي مزودة بكرسي قذف مزدوج، ويمكن إطلاقه من ارتفاع الصفر
وبسرعة الصفر أيضاً، وهو كرسي قاذف من طراز دو غلاس أسكاباك A -C3 وكابينة القيادة فيها مدرعة في المقدمة والمؤخرة والجانب الأيسر، وسمك التدريع حوالي 18 مم، وأكد لها أن
زوجها موشيه إما أصيبت طائرته بصاروخ «سام 6»، وفي تلك الحالة ربما يكون أسيراً لدى السوريين، أو أن صاروخاً من طراز atoll جو / جو، أصاب به السوريون كابينة قيادته الفقاعية
فانفجرت به الطائرة جوًا.
كانت إجابة منير لا تختلف عن الإجابة التي سمعتها من قبل، فلم يعطها إجابة قطعية تؤكد أو تنفي موت موشيه، وبقي السؤال كما هو: هل موشيه بيراد لا يزال حياً في قبضة السوريين؟ أم
انفجرت به الطائرة في الجو؟ وفي الحالة الأخيرة لا بد من أن يعثر السوريون على بعض من أشلائه، ومن ثم يعلنون الخبر، وهو ما لم يحدث.