بعد القبض عليها نجحت في تجنيدحارسها
في 8 سبتمبر (أيلول) 1975، وبعد تسعة أيام من اعتقالها، اقتيدت أمينة المفتي إلى مكتب ضابط مخابرات فلسطيني يدعى «أبو داود»، وبدأ باستجوابها متّبعّا أسلوبًا هادئًا، وواجهها بمذكراتها
التي كتبتها بخط يدها وخبأتها في شقتها في فيينا، فعللت ذلك بأنها مريضة بالتوهّم وبأحلام اليقظة، وأنكرت كل ماهو منسوب إليها، وكانت إجاباتها مرتبة منسقة خالية من أي تناقض حسبما
تدربت على ذلك، وبدت ثابتة تمامًا أثناء التحقيق معها. كان مطلوبًا من أبو داود الإسراع بأخذ اعترافاتها قبل أن يهرب أعضاء شبكتها، واستمرت أول جلسة تحقيق معها 18 ساعة متصلة من
دون أن تبدي أي ضعف أو انهيار، وكانت كل أسئلة المحقق لها إجابة منطقية عندها، ما عدا شيئا واحدا، إنه سم السيانيد، واستفادت من دراستها للطب النفسي، فبررت وجوده معها بأنها مريضة
بمرض الجنون الدوري الذي يدفعها للتفكير في الانتحار(!!)، لكن لا يغيب عن رجال المخابرات أن هذا النوع من السم غير موجود في الأسواق، ويستخدمه رجال المخابرات فحسب للتخلص من
ضحاياهم، وبالتالي كان وجوده معها قرينة مؤكدة أنها عميلة مخابراتية، وأمام نفيها لكل شيء تخلى أبو داود عن أسلوبه الهادئ، وقرر أن يتحول إلى أسلوب القهر والتعذيب، وأناب عنه زميله «أبوالهول» في مواصلة استجوابها.
كانت أمينة تعلم أن أدلة تورّطها في الخيانة هشة جدا، وكانت تعد نفسها للاستجوابات التالية، لكن المفاجأة التي لم يتوقعها أحد هي أن السلطات اللبنانية تدخلت للإفراج عنها لدى الفلسطينيين،
لتقوم هي بالتحقيق معها. رأى الفلسطينيون أن يسلموها للسلطات اللبنانية كي لا تزداد الخلافات حدة، في وقت كانت الحرب الأهلية بدأت تستعر نيرانها. رأت السلطات اللبنانية أنها بريئة، وأن
الشكوك التي أحاطت بها ظالمة، وهي طبيبة عربية مخلصة لوطنها(!!)، وخيروها بين البقاء في بيروت أو الرحيل عن لبنان.
كهف السعرانة
في أعقاب ذلك، قام أبو إياد بزيارة منزلية للشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني، وقال له إن التعاون الأمني بين المنظّمة والسلطات اللبنانية أمر مطلوب، لأن في لبنان طوابير من
جواسيس الموساد يجوبون فيها شرقا وغربا، وطلب منه أن تبقى أمينة في حوزتهم لثلاثة أيام ليتمكنوا من كشف شبكتها. وافق تقي الدين على مطلب أبو إياد وأمر باعتقال أمينة مرة ثانية
والبحث في أمر العملاء الآخرين.
عادت أمينة مرة أخرى الى زنزانتها تحت الأرض مقيّدة بالسلاسل الغليظة، وطرح رجال المخابرات الفلسطينيون فكرة نقلها الى مكان آخر تحسبًا لأن تعود السلطات اللبنانية بطلبها، أو يقوم
الموساد بعملية كوماندوس لخطفها، أو تفجر المكان لسد الطريق على اعترافاتها، لكن صلاح خلف «أبو إياد» رأى أن تُنقل بأسلوب آخر، لأن نقلها الى مكان جديد موحش سيشعرها بالخوف
والرهبة ويجبرها على الاعتراف. استقر الرأي على نقلها الى كهف السعرانة في الجنوب اللبناني، بالقرب من شاطىء البحر المتوسط، حيث توجد معسكرات الفدائيين الفلسطينيين بالقرب منه.
وسط حراسة مشددة، نُقلت أمينة في سيارة عسكرية وهي مغماة الى منطقة الكهف المذكور، وظلت السيارة تسير بها قرابة ساعتين، وبعدها اصطحبتها أيادٍ خشنة في طريق صاعد وسط الصخور
استغرق حوالي ساعتين أيضًا، ثم رفعوا الغمامة من على عينيها، فرأت المكان الموحش المرعب الذي نقلت إليه، ولم تعرف أين هي بالضبط، إنها على مشارف مغارة لكن لا تعرف في أي أرض
تقف، ثم اقتيدت الى مكان شبه مظلم، روّعها ما رأت فيه، فلقد رأت فتاة في مثل سنها مربوطة من قدميها إلى السقف والدماء تسيل من كل جزء من جسدها، كانت جائعة وعطشانة تحلم بكسرة
خبز سوداء وشربة ماء ولو من مياه الصرف، ورأت رجلا صارما يطلب من جنوده أن يربطوا يديها ورجليها من خلف، ويعلقوها حتى يجيء أبو الهول.
تعرضت أمينة لأساليب تعذيب نفسية شديدة للغاية، إلى جانب التعذيب البدني، وقام رجال المقاومة بقتل الفتاة التي كانت معلقة بجوارها رمياً بالرصاص على مرأى منها، واتضح بعد ذلك أنها
تمثيلية أعدّت باتقان لبث الرعب داخل أمينة فتنهار وتعترف، وأن الفتاة المعلقة كانت صديقة لرجال المقاومة، وقامت بأداء دورها بكل اتقان على رغم أنها فرنسية الجنسية، وكان من نتائج تلك
التمثيلية المحبوكة أن تعالى صراخ أمينة تطلب أن يكف الجنود عن ضربها بالسياط ويخرجوها لأنها ستعترف بكل ما عندها.
أمام أبوالهول
اقتيدت أمينة للاستجواب في مكان خال في الجبل، حتى يبدو أنه خال من أجهزة تنصّت، لكنه في الحقيقة كان مجهزا بدائرة تسجيل تعمل ببطارية سيارة جيب تقف على بعد عشرات الأمتار. تولى
أحد الضباط التابعين للعقيد أبوالهول أمر استجوابها فسألها: من هو رئيسك المباشر في الموساد؟ لكنها أجابت: سأموت عطشا.. اسقني، لكنها قبل أن تكمل جملتها كان رد الضابط إشارة بإصبعه
الى أحد الجنود ليهوى سوط من نار على ظهرها، فأجابت على الفور: اسمه اشيتوف، فسألها: أين جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة؟ أجابت وهي تنظر الى الكرباج برعب: أمروني أن أضعه في
صندوق قمامة أعلى شقتي، وأن أحرق أوراق الشفرة التي كانت بالمصحف. زاد الضابط المحقق جرعة التعذيب والضغط النفسي عليها كي لا يعطيها فرصة للتفكير والكذب، وأوحى لها أن موشيه
كان رجل مخابرات إسرائيليًا تزوجها لتجنيدها وأنه لم يكن يريد منها سوى ذلك، فتوالت اعترافاتها كالسيل، كي لا يتعصب وينفذ تهديده بقتلها بالرصاص، فاعترفت على كل شركائها في لبنان،
بمن فيهم مدير السنترال الذي فتح لها الغرفة السرية للتنصت على مكالمات رجال المقاومة. بعد ذلك حضر العقيد أبوالهول بنفسه بوجهه العابس وملامحه الجامدة، وشرع في توبيخ الضباط
والجنود الذين لم يعذبوها بما فيه الكفاية، ولامهم أشد اللوم لأن جسدها لا ينزف كله، فإذا ما راحت في شبه غيبوبة من الرعب والخوف وتأكد من انهيار مقاومتها تماما، أخذها ليستجوبها ثانيةً
بنفسه، وأمام العقيد أبوالهول، أجابت أمينة عن كل أسئلته، واعترفت بكل شيء، وقصت قصتها كاملة منذ ذهابها الى النمسا وزواجها بموشيه اليهودي واعتناقها لليهودية ثم هجرتها لإسرائيل
وعملها مع الموساد.
بعد انتهاء التحقيق معها واستيفائه، أُرسِل الملف بالكامل الى أبو إياد ثم ياسر عرفات، وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي قُبض على مدير السنترال مارون الحايك، ومانويل عساف،
وخديجة زهران، لكن عساف ألقى بنفسه من الطابق الخامس ليلقى مصيره منتحرا، في حين استسلم الحايك وخديجة لرجال المخابرات الفلسطينية، واقتيدوا إلى حيث ترقد أمينة في كهف السعرانة،
وعلِّقا أمامها، والسياط تلهب ظهريهما، واعترفا تفصيليا بكل ما فعلاه، وبعد انتهاء التحقيق معهما سلِّما للسلطات اللبنانية لمحاكمتهما.
أما أمينة فقد امتنع الفلسطينيون عن تسليمها للسلطات اللبنانية، ولم يستجيبوا لضغوط وزير الداخلية بتسليمها. تغاضى الوزير عن ذلك، وانكمشت أمينة في محبسها مكبلة بالحديد تنتظر الموت
بين لحظة وأخرى، وخضعت لاستجوابات تالية عدة للكشف عن المعلومات التي أدلت بها للموساد لتلافي أي خطر يحيق برجال المقاومة، وليقوموا بتعديل خططهم وتحركاتهم ومخازنهم وعملياتهم
التي انكشفت، ويبدو أن اعترافاتها لم تكن كاملة، فقد أخفت الكثير عنهم، وذلك حسبما اعترفت بعد ذلك في مذكراتها التي نشرتها في إسرائيل في أكثر من 600 صفحة.
نشرت الصحف اللبنانية خبر القبض على أمينة وأفراد شبكتها، فارتجت كل أجهزة الموساد، وجرت اجتماعات غير عادية لكبار قادتها، فلا بد من عمل المستحيل لاستعادة عميلتهم الأسطورية، وإلا
فإن جواسيسهم في لبنان سيقعون أو سيهربون خوفا وهلعًا. على جانب آخر، أرجأ ياسر عرفات تقرير مصير أمينة، وعارض رأي علي حسن سلامة الذي طلب سرعة إعدامها، فقد كان عرفات
يرى فيها فرصة لاستعادة عدد من رجال المقاومة الموجودين في سجون إسرائيل.
لم تضع أمينة وقتها في السجن هباءً، وراحت تنسج شباكها على واحد من حراسها ويدعى حسن الغزاوي، فأقنعته بأن الفلسطينيين فعلوا بها ذلك نكاية في عمِّها الذي يشغل منصبا كبيرا في
البلاط الملكي الأردني، لأنهم تصوروا أنه أحد المحرضين على مذابح أيلول الأسود، فتعاطف الرجل معها. أجادت أمينة لعبة السيطرة عليه، لدرجة أنه أصبح يحلم بالذهاب إلى إسرائيل معها، وبدأ
يستجيب لأفكارها في إمكان تهريبها وهروبهما سويا عبر الحدود، فكانت بذلك أول عميلة للموساد تجنّد حارسها. لكن حلمهما خاب عندما أفضى الجندي بسره إلى أحد زملائه في المخيم، فروقب
وضُبط وهو يحاول إدخال سترة عسكرية لأمينة كي ترتديها في رحلة الهروب!، وانتهى حلمه بإعدامه رمياً بالرصاص في أكتوبر (تشرين الاول) 1976، وضوعفت القيود الحديدية بيدي أمينة
ورجليها، وشُدت مصلوبة إلى الحائط، وقلِّل المنصرف لها من الطعام والشراب، حتى تقيحت أطرافها وشحب جسدها، ومرت خمس سنوات وهي بتلك الحالة، حتى باتت لا تحلم إلا بالموت ليريحها
من هذا العذاب القاسي جدا.
( يتبع )