أيام جميلة وعيزرا في العسل يمتص النعيم مصاً. . ويخوض بحور اللذات سابحة وغرقاً بين أحضان عروسه. ولم تكد تمر فترة وجيزة حتى مات بوشا .. فمات بالتالي الدين الذي صكه.
وأثناء تشييع جنازته، اقترب منه رجل لا يعرفه.. همس له ببضع كلمات واختفى. وعاد الى منزله تشوبه ملامح القلق. وسألته روان عما بداخله فصارحها بأمر أبيها ومعاونته له في تهريب اليهود. "إذن أنت بطل". . هكذا كان تعليقها وهي تعانقه، وتفجر القنبلة التي كان يمسكها بيده عندما قالت: كنت أعرف.
لقد اختصرت الطريق عليه. . وطالما هو بطل في نظرها فكل شيء يهون.
وفي مقهى قاسم جاءه الرجل الغامض. . منحه خمسمائة دينار وطلب منه أن يتلاقيا بعد أسبوع في ذات المكان والساعة.
إنه أحد عملاء الموساد في العراق. مهمته تدريب الجواسيس الجدد، وحصد المعلومات منهم وتجميعها، والربط بين الشبكات.
توالت لقاءاتهما بأماكن مختلفة ببغداد، وأخضع عيزرا لدورات في فنون التجسس. وفي غضون مرحلة قصيرة تعلم الكثير . . وأقبل على مهنته في شغف بالغ وقد تخرج في مدرسة الموساد جاسوساً مدرباً ملماً بهذا العالم المثير العجيب. . عالم الجاسوسية.
لقد انصب عمل عيزرا على تكثيف جهوده لتهريب يهود العراق. . وفي خلال عامين تمكن من تهريب أكثر من أربعمائة منهم الى عبادان عبر شط العرب. وسلك في ذلك أساليب شيطانية أنجحت مهمته، برغم التواجد الأمني المشدد، فأصبح بذلك أمهر جواسيس الموساد في بغداد.
وبينما عيزرا يتقدم في عمله بنجاح، كانت روان مشغولة بأمر فشلها في الإنجاب، يملؤها الحنين الى طفل يضيء حياتها.
وبرغم صمت زوجها وعدم اهتمامه بالأمر، إلا أنها سعت للأطباء واهتمت بالوصفات الشعبية دون فائدة. فأكلها الهم ومزقها الأسى، وحدثتها نفسها أن تفاتح زوجها برغبتها في الهرب معاً لإسرائيل، حيث تدوالت الأقاويل إمكان علاجها هناك.
لقد ظلت كثيراً تقلب هذه الفكرة في رأسها الى أن تشجعت وعرضت الفكرة عليه، فثار رافضاً في البداية ثم عاد وطلب منها الانتظار حتى "يأذنوا" له بالهرب. وانتهز الفرصة وتكلم مع مندوب الاتصال الذي يلتقي به في مواعيد محددة. فطلب منه مهلة ليعرض الأمر على رؤسائه في الموساد.
بالطبع لم يكن من السهل على الموساد أن تسحب عيزرا بعدما اتقن عمله وأجاده بحرفية عظيمة .. فعملية سحب العملاء تخضع لحسابات معقدة أهمها أن تصل درجة ثقة العميل في نفسه الى حد الغرور. . مما قد يوقعه في خطأ فادح يكشفه، نتيجة الثقة الزائدة في قدراته، والاستخفاف بقدرات رجال الأمن في القطر الذي زرع فيه. لم يصل عيزرا الى حد الخوف عليه بعد. فالمنتظر منه لا زال آتٍ بالطريق. . ولا بد من استغلاله و "استهلاكه" قبل الإذن له بالتوقف، أو السماح له بالمغادرة.
جاءه الرد كما كان متوقعاً. . فحزن كثيراً لأجل روان، وتملكه الزهو عندما أعلم بأنه منح رتبة عسكرية في الجيش الاسرائيلي، تضمن له ولأسرته معاشاً محترماً عندما ينتهي من مهمته ويفر الى إسرائيل. وأخضع لدورة تدريبية جديدة لتعلم كيفية استعمال اللاسلكي في الإرسال بعدما سلموه جهازاً لاسلكياً متطوراً. . ولا يمكن رصده بأجهزة تتبع الذبذبات التي لم تكن موجودة أصلاً بالعراق.
بذلك .. وثق عيزرا في أهمية دوره لخدمة مصالح إسرائيل في العراق، فطور كثيراً من مهامه التجسسية لتشمل جمع التقارير المهمة التي يحصل عليها من عمله في وزارة التجارة.
أيضاً نجح في تنمية علاقاته ببعض المسؤولين، وطلب الإذن بتجنيد ما يراه منهم فلم يأذنوا له. وبقدر ذهول مرؤوسيه في الموساد لمهارته في البث اللاسلكي.. أذهلهم أكثر تغلغله داخل فئات المجتمع وإرسال تقارير غاية في الأهمية عن الاقتصاد والزراعة. . وأصبحت المعلومات التي يبثها الى تل أبيب تقيم في الفئة (أ) التي تستحق عن جدارة مكافآت مالية ضخمة اتخمت بها جيوبه وبدلت نظام حياته وإنفاقه.
أشفق عيزرا على حال روان التي انزوت بين همومها بسبب حنينها الى طفل. فعرض عليها من باب "التسلية" مشاركته . . أيضاً. . طمعاً في المزيد من أموال الموساد، وكان المطلوب منها أن تبدي بشاشة لموظف بوزارة الخارجية صادقة أخيراً.
بدت المهمة صعبة في البداية، فهي لم تعرف بعد حدود تلك البشاشة، إذ ترك لها تقدير الموقف بنفسها. . وهذا يعد إذناً لها بأن تمشي في الطريق الى نهايته. .
وطني أكثر من اللازم
حاولت روان ببساطة الأنثى المثيرة التي تعد أمراً. . وبسهولة شديدة أوقعت الموظف المسيحي في حبائلها.. فأوهمته بأنها تحبه، وبأنها أصبحت لا تفكر بالهرب الى إسرائيل من أجل أن تظل الى جانبه.
انزعج "كامل" عند سماع اسم "إسرائيل" ولكي تذهب عقله وتشل تفكيره، أسلمت له نفسها فانزلق بين أحضانها يحسو الخمر نشواناً. . لا ينفك يطلب المزيد والمزيد. وهل امرأة صغيرة رائعة مثلها يشبع منها رجل . .؟ أو يفيق من سكره. . ؟
ففي غيبة الإدراك أعلنها كامل صريحة بأنه معها في أي مكان. . ولو في إسرائيل . . ولما تأكدت من إتمام سيطرتها عليه. . طلبت منه الثمن. . ثمن دخولهما إسرائيل.. فتدفقت الوثائق والتقارير من أرشيف الوزارة السري. . وكلما سلمها عشرات الوثائق الخطيرة ادعت بسخرية تفاهتها.
ومرت بهما الأيام وقل حديثها عن الحب والهرب. . إذ شغل الحديث عن مغامراته لجلب الوثائق كل المساحة بينهما.
لقد أدرك كامل بأنه وقع لأذنيه في بئر الخيانة. . فانغمس غصباً عنه لا يستطيع التراجع أو الخلاص. .
واستلذت روان اللعبة. . والمغامرة، والقتل بسلاح أنوثتها، إنها لعبة مثيرة ترضي غرورها. . وتبعدها عن التفكير في الإنجاب. فانساقت في الطريق وقد استهواها العمل واستغرقها.
أما عيزرا فلم يضيع وقتاً طويلاً في الثناء على شريكته الجديدة. إذ كلفها باصطياد ملازم أول مطار بغداد مغرور ببزته الرسمية وبالسيارة الحكومية التي تذهب به وتجيئه كل يوم.
ولأنه يسكن بالمنزل المواجه. . كان الأمر هيناً جداً. . عندما أشهرت روان أسلحتها الأنوثية الفتاكة في وجهه، فاستسلم. . وتقرب الى عيزرا الذي هيأ له المناخ الصحي للسقوط .. فسقط الشاب الصغير بلا تفكير .. وتدفقت من خلاله المعلومات الأكثر سرية عن المطار، وطائرات الشحن المحملة بالمعدات العسكرية، التي تفرغها بداخل حظائر خاصة تخضع لإجراءات أمنية صعبة، وكذا، وأعداد الخبراء السوفييت والتشيك الذين يتوافدون ويغادرون، والرحلات السرية لطائرة الرئاسة.
معلومات أشد سخونة كان يبثها عيزرا فتثير شهية الإسرائيليين.. وتدهشهم جرأة عميلهم الذي امتلك قلباً من فولاذ . . لا يقهره خوف .. أو يرتجف رعباً إذا ما قرأ بالصحف العراقية عن سقوط جواسيس للموساد أو إعدامهم.
كانت التحذيرات تجيئه آمرة إياه بألا يقرأ تلك الأخبار "الكاذبة" التي يروجها العراقيون. لكنه لم يكن يأبه لتلك المخاوف، بل كان يقرأ ليستفيد من الأخطاء التي أدت لسقوط الجواسيس، فيتجنبها، وتتضاعف بذلك خبراته. . وثروته.. بفضل حسه الأمني. . وبالمعلومات الثمينة التي يحصل عليها بفضل جسد زوجته. خاصة وقد أخبرهم بأمر انضمامها الى العمل.. وقدراتها الفائقة على السيطرة وتجنيد عملاء جدد. فكان ردهم بأنهم يقدرون ذلك. . وأن روان قد تم منحها هي الأخرى رتبة ملازم أول في جيش الدفاع الإسرائيلي . . تقديراً لتعاونها المشرف .. !!
ولأسبابا أمنية بحتة .. اشترى عيزرا منزلاً جديداً من طابق واحد في حي الكاظمية . . كان بالمنزل حديقة خلفية ذات أشجار كثيفة. . وباب يؤدي الى منطقة مهجورة مليئة بالأحراش. . وبواسطة تلسكوب مكبر كان "يمسح" المنطقة المحيطة المؤدية الى منزله قبل خروجه. . أو قبل زيارة عميل مهم.
هذا المنزل تحول الى غرفة عمليات خطيرة.. وتتم فيه عملية السيطرة على من يراد تجنيدهم.
وخلال ثلاث سنوات من انخراط روان في الجاسوسية. . استطاعت وحدها تجنيد ثلاثة عشر موظفاً عاماً في مواقع مهمة. أربعة منهم ضباط برتب مختلفة في الجيش العراقي.. وضابط بأمن المطار. . وستة آخرين يشغلون مناصب إدارية بالوزارات المختلفة. جميعهم سقطوا في قبضة روان بفضل لغة الجسد والإثارة. وتدفقت بواسطتهم أسرار العراق أولاً بأول الى إسرائيل.
( يتبع )