في آخر لقاء تلفزيوني شاهدته له قبل عام من وفاته تقريباً، قال الفنان الراحل جعفر السعدي: للأسف لم يبق من العمر إلا القليل. ثم أضاف: مع كل الأسف.
أجزم أن آلاف القلوب العراقية رددت عبارة كهذه بحرقة وهي تسمع كلمات الفنان السعدي تلك، خصوصاً نحن العراقيين المفارقين العراق منذ ربع قرن أو أكثر، كنا بحاجة إلى شهود اصلاء على هويتنا المصادرة، وجعفر السعدي الذي تشرد أبناؤه وبناته من المسرحيين في أرجاء الأرض، كانوا يريدون منه أن يجمعهم ويعيدهم من جديد إلى بيتهم الأول وحياتهم، على اعتبار أن المسرح هو الحياة والبيت، وكنا نريده أن يعيدنا معهم، والأب هو خير شاهد على الهوية، وجعفر السعدي كان مشروعنا الذي لم يكتمل في إعادة الاعتبار إلى كل ما هو جميل وأصيل.
كنا نتمنى في الأقل أن لا يتقدم العمر بالذين نحبهم، وأن لا يدفعوا ضريبة الأيام والسنين وأن نقطع من ذلك الزمن القسري حتى آخر ساعات الغربة ونوصله من جديد، وكأنا فارقناهم البارحة، لكن الأيام مضت رغماً عنا، وأخذت منا أكثر من حقها.
كنا نرجو الذهاب إليه بوثائقنا الكاذبة كي يمزقها أمامنا، ويعيد إلى نفوسنا المتعبة لمعة الثقة والصدق، كنا سنقول، ما زالت الدنيا بخير، وما زال ثمة من يعيد عمادنا من جديد.
في أكثر من عاصمة ومدينة كبرى كان المسرحيون من تلامذة الفنان الراحل جعفر السعدي يجتمعون في مناسبة ثقافية أو عرض مسرحي جديد، ونحن معهم كصحفيين، يستذكرون أساتذتهم في الأكاديمية والمعهد، وحين يتذكرون أستاذهم السعدي يجرفهم الحنين إلى الوطن، يتوقف المحدث ثواني قليلة، ويتغير طقس الحديث إلى جد دافئ لا وجوم فيه، بل حنين وحسرة دافئة وعيون تتوسل اللقاء.
في أحد تلك اللقاءات الصحفية مع المخرج المسرحي د. أياد حامد، وكنت أحاوره عن تاريخ المسرح في العراق وأهم أساتذته وفترة أواخر الستينيات وبوادر السبعينيات التي كانت العصر الذهبي للمسرح العراقي، التي شهدت أهم العروض المسرحية العراقية والعالمية على مسارح بغداد والعراق، اقترح علي أن أكتب عن هؤلاء المسرحيين الكبار، فذكرت له عبارة الفنان جعفر السعدي وكأنها نبوءة مخيفة، فقال، أكتب عنه. ماذا أكتب؟ أشكره مثلاً على تكريس حياته للمسرح فناً وتدريساً، على أعماله، وتفاصيل أخرى كان أياد سيزودني بها.
رفضت، وامتنعت عن أن أقول كلمة الشكر للراحل الكبير، لأنني كنت أخشى عليه من هذه الكلمة التي تقال دائماً في نهاية المشوار، وتأتي دائماً متأخرة بعد أن ينتهي المشوار بموت يقسرنا جميعاً ويضعنا أمام واقع لا نتمناه.
لم يكن جعفر السعدي فناناً وأستاذا فقط، بل كان واحداً من المسرحيين الكبار، الذين أخشى أن أذكر أسماء بعضهم، إلا في مناسبة غير هذه، من الذين لعبوا دوراً كبيراً في تجميل حياتنا وإضفاء بهجة جديدة لم نألفها هي بهجة المسرح، وتأسيس لصرح أضاف معالم جديدة لمدينة بغداد الجميلة أصلاً، وزاد على جمالها التاريخي جمالاً.
إن مبدعي الحياة نادرون قليلون، وكان من العدل أن يكون موتهم نادراً وقليلاً، ليس اعتراضاً وإنما من أجل هذه الحياة التي حولوها بإبداعهم إلى جوهرة نفيسة.