[color=red]المسيحيون العراقيون : وقفة تاريخية عند ادوارهم الوطنية والحضارية
سيار الجميل
ثمة ملاحظات مهمة أود ذكرها وانا مؤرخ عراقي مسلم قبل ان اعالج هذا ' الموضوع '
الحيوي الذي لابد ان يأتي في مثل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العراق ،
ويكتوي بنارها العراقيون وهم يفتتحون تاريخا جديدا لهم عند بدايات القرن الواحد
والعشرين ، ذلك ان مثل هذا ' الموضوع ' لابد ان يدرك ادراكا حقيقيا ليس من قبل
المهتمين والمختصين حسب ، بل من قبل كل العراقيين ، وليس لأن المسيحيين
العراقيين اقلية في مجتمع مسلم ، بل لأن هذه التي يسمونها ' اقلية ' كانت لها
ادوارها الحضارية عبر التاريخ وليس في العراق فحسب ، بل في كل ارجاء الشرق ،
فضلا عن الادوار النهضوية والوطنية على امتداد مائتي سنة وحتى اليوم ناهيكم عن
ثقلهم ووجودهم ومؤسساتهم باديرتهم وكنائسهم ومطرانياتهم وخصوصا في الموصل
واطرافها منذ قرابة الفي سنة ..
وما كنت ارغب في يوم ما ان اكتب عن اقلية واكثرية في مجتمع مثل العراق الذي
تجانس فيه الناس وتناغمت فيه خصالهم وعاداتهم وتقاليدهم ، بل وانسجمت فيه
حياتهم وشراكة عيشهم .. لولا هذه الموجات العاتية التي تهدد حياة العراق وخصوصا
في المناطق التي يتنوع فيها السكان وتتعدد فيها الالوان ..
نعم ، لقد كنت قد كتبت قبل قرابة شهرين في الدفاع عن المسيحيين العراقيين وعن
وجودهم التاريخي ولمن تقرع الاجراس حول مصيرهم ، نظرا لما يلاقونه وكنائسهم من
اعتداءات ظالمة لم يألفوا مثلها ابدا مذ وجدوا في بلاد وادي الرافدين منذ الاف
السنين ...
وبالرغم من كل ما وصلني من كلمات شكر وتقدير كتبها عراقيون نجباء ، فان البعض
من الاخوة الاثوريين العراقيين قد وقف من توصيفي لهم موقف المتعجب والسائل ،
وانني اقدر واثمن عواطفهم ، ولكن المسألة ليست بجوهرية الى هذا الحد ولكن ثمة
مراجع واصول لابد من الاحتكام لها بدل اي اختلاف في وجهات النظر ، فالمعلومات
هي التي تبقى اساسا حقيقيا في المعادلة ، ولكنني اقول بأننا اليوم لسنا في حال
يمكننا فيه ان نتناظر حول تسميات ومواصفات ، اذ لابد من التعريف باولوياتنا
الامنية والوطنية المشتركة قبل كل شيىء آخر ، فنحن عراقيون قبل اي مرجعية اخرى
. ومع كل هذا وذاك ، فسوف ابقى ادافع عن حقوق كل العراقيين بمختلف تراكيبهم
واطيافهم واعراقهم واديانهم والوانهم من اجل استعادة ازدهار العراق من خلال
الشراكة والتعايش بين كل ابنائه ..
نهضويون عراقيون : غبن حقهم وعتم عليهم عشرات السنين
دعوني اليوم اعالج باختزال موضوع الادوار النهضوية والوطنية الحديثة للمسيحيين
العراقيين وخصوصا في تكويننا الثقافي والاجتماعي.. وسأعول على بعض المصادر
التاريخية المهمة فضلا عن ذاك الذي قد نشرته عن تاريخ المسيحيين العراقيين
وادوارهم النهضوية في المجتمع العراقي والمنطقة كلها ، وخصوصا ذاك الذي عالجته
في كتابي الموسوم : ( زعماء وافندية : الباشوات العثمانيون والنهضويون العرب )
وكتابي الاخر : ( انتلجينسيا العراق : النخب العراقية في القرن العشرين ) من
اجل ان نقف على جملة من الحقائق المهمة التي تكاد تكون مخفية ليست عن القراء
العرب ، بل حتى عن العراقيين انفسهم . انني اذ انشر مثل هذا المقال ، اعيد
واكرر ما كنت قد قلته سابقا بأن من ساذكره من المؤسسين النهضويين العراقيين
جميعا كانوا قد نالوا من الغبن والجفاء والتعتيم عندما كان يشار الى غيرهم من
مصر وبلاد الشام من دون اي ذكر لمثل هؤلاء العلماء والرحالة والرجال الاعلام
النهضويين العراقيين الذين قدموا خدمات كبرى كان ولم يزل لها تأثيرها البالغ في
الحياة العربية الحديثة .. ومن المؤسف جدا ان يقّدر ويثمن هؤلاء في بلدان
اوربية ولا يعرفهم العرب ا
كان لعدد من الشخصيات المسيحية العراقية دور كبير في حركة النهضة العربية
الحديثة التي نشأت في القرن التاسع عشر وخصوصا في العراق الذي شهد بدايات نهضة
شاركت بها نخبة من المصلحين والعلماء والافندية ، ويكاد يكون تاريخ النهضويين
العراقيين المسيحيين في الثقافة العربية مستتر وخفي عن الاعين بفعل التعتيم
الذي مورس ليس ضد ادوار المسيحيين العراقيين حسب ، بل ضد كل المثقفين العراقيين
في تاريخ ثقافة العصر الحديث ..... دعوني اتّوقف تاريخيا وباختصار عند الرواد
المسيحيين الاوائل من العراقيين :
1. الموصلي : اول شرقي يصل امريكا
ولكن اذا رجعنا الى الوراء لوجدنا ان اول مستكشف للعالم الجديد ( = امريكا ) هو
الياس بن حنا الموصلي الذي انطلق من بغداد ، ومن ثم روما نحو امريكا وعاد
برحلته الشهيرة كأول رحالة من الشرق كله يصل العالم الجديد . وكان هذا '
الموصلي ' من أبرز شخصيات العراق في نهاية القرن السابع عشر، وهو المثقف
المسيحي العراقي الكلداني (كان حياً سنة 1692م) وكان قد رسم كاهناً في بيعة
الكلدان بالموصل ، ثم تنقل أهله بين بغداد والموصل وحلب ، وقام برحلة سياحية
طويلة إلى قارتي أوربا وأمريكا، إذ غادر بغداد سنة 1668م، ومر بحلب فالإسكندرية
فالبندقية فروما، ثم فرنسا وإسبانيا ومنها رحل إلى قارة أمريكا الجنوبية ، فمر
بأجزاء من بناما وكولومبيا وبيرو وبوليفيا وشيلي ثم المكسيك، وعاد إلى روما سنة
1683م، ليقضي فيها ما تبقى من حياته، ولم نقف على تاريخ وفاته، لكنه طبع في
روما كتاباً سنة 1692م ويعد هذا الرجل العراقي أول سائح شرقي/ أسيوي زار العالم
الجديد بعد استكشافه من قبل الاوربيين . ( وكانت رحلته قد نشرت منذ عهد بعيد
ولكنني قمت بتصوير اصولها ومنحتها للاخ الدكتور عبد الله الخطيب لتحقيقها ، وقد
اعيد نشر ما كان قد نش
ثمة شخصية عراقية مسيحية موصلية اخرى تمثلها العلامة يوسف عتيشة الموصلي
المولود بالموصل عام 1599 وتوفي في المانيا عام 1680. ودرس الكلدانية والاشورية
في العراق ، ثم سافر الى فلسطين واستقر فيها ردحا من الزمن ومارس التدريس هناك
ودرس اللغات السامية وتاريخها وتتلمذ على يديه العديد من الطلبة ، ثم سافر الى
المانيا ملتحقا بمعهد الاستشراق التابع لجامعة فيتننبيرغ ، وبعد مضيه اربع
سنوات فيه حمل يوسف عتيشه لقب الاستاذية ( البروفيسور ) وغدا زميلا في ذلك
المعهد وساهم في تطوير علوم الاستشراق واضاف الى دراسات المعهد لغات مهمة اخرى
هي العبرية والسنسكريتية .. وتقديرا لجهوده العلمية الكبرى ، حفرت الجامعة
صورته على قطعة خشبية ووضعت في مستودع الجامعة اعتزازا به وتكريما له على جهوده
العلمية وثقافته العليا في اوروبا منذ ذلك الوقت المبكر من عمر النهضة الحديثة
( ولقد وقفت على معلومات تاريخية غاية في الاهمية على هذا الرجل عراقي الاصل
عندما كنت استاذا زائرا في جامعة كيل بالمانيا الغربية في العام 1987 ) .
3. الرحالة الكاثوليكي الموصلي
أما في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فبرز رحالة عراقي آخر هو خضر بن إلياس
هرمز الموصلي الكلداني (1679-1755م) الذي كتب أعمالاً أدبية وتسابيح دينية
واعتنق مذهب الكثلكة، وسافر إلى روما والفاتيكان التي وصلها سنة 1725م وعاش
فيها حتى وفاته وكتب رسالته' رحلة من الموصل إلى روما سنة 1719م ' وصف فيها
رحلته البرية والبحرية، وتعرض إلى ذكر اضطهاده بعد اعتناقه مذهب الكثلكة ...
لقد غدا العراق في القرن الثامن عشر أكثر استقراراً وتطوراً وحركة اقتصادية
وازديادا للنفوذ الأوربي التجاري والتبشيري، وارتفعت مكانة العراق كثيراً لدى
البلاط العثماني، كما شهد العراق نشر المذهب الكاثوليكي من خلال الإرساليات
المتعددة وبروز بعض الحركات والأفكار الإصلاحية، كما ونضجت بعض التقاليد
العلمية والثقافية وارتقت المدونات ولغة الكتابة الأدبية والشعرية وبخاصة في
الموصل، ولقد انجب العراق العديد من الأدباء والعلماء خلال القرن الثامن عشر.
4. الاباء الدومينيكان وادوارهم :
ومن ناحية أخرى، شهدت الموصل في القرن الثامن عشر فعاليات نشيطة للبعثات
التبشيرية الفرنسية في نشر الكثلكة في الشرق، كان لها أثراً كبيراً على الحياة
الاجتماعية والثقافية بتحول الكثير من مسيحيي العراق إلى مذهب الكاثوليكية
وإعلان اتحادهم بكنيسة روما المركزية رسمياً... علماً بأن كلاً من الثقافتين
الإسلامية والمسيحية قد تعايشتا في العراق على مدى قرون طويلة، وكان لكل منهما
خصوصيتها وأدواتها في العمل والانتاج ... واشتهر العديد من الرهبان والقسس
والمطارنة كعلماء ورحالة وشعراء ومدرسين في اللغة العربية الى جانب السريانية
الارامية . وقد كان من أهم تلك البعثات : ارسالية الآباء الدومنيكان الذين
وصلوا مدينة الموصل سنة 1750م وقدموا خدماتهم الطبية والتعليمية ومنها تأسيس
مدرسة فرنسية عرفت بمدرسة الآباء الدومنيكان التي خرجت طبقة من المثقفين
والعلماء المحدثين استمر تأثيرهم حتى القرن العشرين .. اذ كان لهم تأثيرهم في
نشوء المسرح بالموصل لأول مرة في تاريخ المنطقة ، وكان لهم تأثيرهم في تأسيس
المطابع ونشر العدد الكبير من الصحف .. فضلا عن الطباعة وخدمات اخرى .
5. العلامة اقليموس : رائد نهضوي
ان عددا متميزا من مثقفي العراق النهضويين كانوا من اخواننا المسيحيين الذين
تلقوا علومهم ومعارفهم الدينية والمدنية في اديرة الموصل وكنائسها فضلا عن دور
روما ، في حين كان المثقفون العراقيين من المسلمين اساتذة وعلماء من العراق
يدرسّون في استانبول . لقد استطعت ان اكشف عن مساجلات مهمة من خلال اتصالات
ادبية كانت بين ادباء عراقيين وادباء لبنانيين ابان القرن التاسع عشر ، وان
العراق عرف المطابع منذ عهد طويل وعلى ايدي المسيحيين العراقيين ، وثمة
ارساليات قد نجحت في تأسيس مدارس درس فيها مسلمون ومسيحيون ، ويكفي بروز
العلامة اقليمس يوسف داود ( 1829- 1890م) في الموصل بالعراق متقنا عدة لغات ،
وكان بحرا في اللغة العربية ، وخرج من حياته بحصيلة من الكتب بلغت (85) مؤلفا
في مختلف المعارف ، وقد انتخب عضوا عاملا في الجمعية الاسيوية الملكية
البريطانية سنة 1890 ، وعد من رواد النهضة الفكرية العربية الحديثة بسبب غزارة
انتاجه وعمق افكاره وتضلعه بلغات ومعارف موسوعية ، وكان واحدا من رجالات النهضة
العربية الذين لهم علاقاتهم بادباء ونهضويي لبنان وبلاد الشام عموما .
( يتبع )