مفخّخات ومتفجّرات
أقام خميس في إحدى شقق بيروت، ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهّده ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه «روبرتو»، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط أوقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات.
كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة T.N.T شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريباً طويلاً، خصوصا أن خميس لم يسبق له الالتحاق بالجيش ولا يملك أية خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب.
في أولى عملياته التخريبية، أصدرت إليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية في بيروت. سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود. حمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط وقتها وتوجه إلى مبنى السفارة بهدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى من دون حقيبته التي تركها في الصالة الرئيسة خلف قطعة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة.
نصف ساعة وملأ الحي دويّ الانفجار، قُتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين. عاد خميس إلى شقته لاهثا يلفه الخوف والذعر، ولحق به روبرتو ليجده على هذه الحال، فصفعه بعنف قائلاً إنه يعرض نفسه بذلك للخطر.
وقف خميس مكانه ساكناً شاحباً، فيما انهالت عليه كلمات اللوم والتقريع والسباب، فالسيطرة عليه كانت مطلوبة عنفاً ولينا، ترهيباً وترغيباً، منحاً ومنعاً، وتلك أمور يجيدها خبراء السيطرة والالتفاف في أجهزة المخابرات، وهم أدرى الناس بكيفية التعامل مع الخونة والجواسيس، فهم يخضعون تصرفاتهم وردود أفعالهم وفقاً لنظريات علمية مدروسة ومحسوبة بدقة، وليس لمجرد هوى في النفس، فترويض الخونة في شبكات التخريب أمر بالغ التعقيد والصعوبة.
عندما أذاع التلفزيون حادث التفجير وملأت صور الضحايا والمصابين الشاشة، كان روبرتو يراقب خميس عن قرب، ويدرس تفاعلاته وانفعالاته، وكانت المسألة مجرد تدريب على وأد مشاعره وقتل أية محاولة للرفض أو التمرد، أو الندم.
قصدت إسرائيل من تفجير السفارة العراقية في بيروت إشعال الشقاق بين الدولتين وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة الى تقوية أواصر العلاقة بين لبنان والاتحاد السوفياتي، ويؤيد لبنان في خطواته نحو الاتجاه إلى الكتلة الشرقية. قصدت إسرائيل كذلك توجيه الاتهام إلى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني والمساندة.
نظراً الى ظروفه السيئة، أُغدقت الأموال على خميس فكفر بعروبته وتحول بعد مدة قصيرة إلى دموي يعشق القتل والدم، بل واستطاع تجنيد لبناني آخر اسمه جميل القرح كان يعمل مدرساً وطُرد من عمله لشذوذه مع تلاميذه الأطفال، فتصيّده خميس وجرّه إلى نشاطه التخريبي، وبارك روبرتو انضمامه للشبكة. لم يستغرق تدريبه وقتاً طويلاً، فبسبب خدمته في الجيش كان أكثر تفهماً لخطوات التدريب، كذلك أعمته الموساد بالأموال أيضاً فغاص لأذنيه في التفجير والتخريب وقتل الأبرياء، فشكل الاثنان معاً شبكة إرهابية هزت عملياتها بيروت.
صواريخ السيّارات في التاسعة من صباح الثلثاء 10 ديسمبر (كانون الثاني) 1974 وبينما عدد كبير من موظفي مكتب منظمة التحرير في منطقة كورنيش المزرعة، يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية، هزهم انفجار قوي، تبين أنه حدث في الطابق الأول من المبنى حيث معرض «ذبيان وأيوب» للمفروشات، وعثر رجال الأمن على سيارة فيات 132 بيضاء اللون تقف على الرصيف المواجه، ووجدوا على سطحها قاعدة لإطلاق أربعة صواريخ آر . بي . جي بلجيكية الصنع عيار 3.5 بوصة، مركّزة على لوح خشبي متّصل بأسلاك كهربائية انطلقت منها الصواريخ.
وسّع رجال الأمن دائرة التفتيش، فعثروا على بعد 65 متراً من السيارة الأولى، على سيارة ثانية من ماركة «فيات} أيضاً، وعلى سطحها صندوق خشبي آخر تخرج منه أسلاك كهربائية متصلة ببطارية السيارة.
أُخليت مكاتب المنظمة وسكان البناية، وقبيل مجيء خبير المفرقعات، شوهد الصندوق الخشبي يفتح أتوماتيكياً لتنطلق منه ستة صواريخ آر . بي . جي، أصابت مباشرة مكاتب المنظمة وتحطّم واجهاتها ومحتوياتها.
في الوقت نفسه تقريباً، تعرض مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والكائن بالطابق الثاني من بناية الدكتور راجي نصر، في شارع كولومباني المتفرع من شارع أنور السادات، لهجوم صاروخي مماثل، إذ انفجرت أربعة صواريخ دفعة واحدة، انطلقت من على سطح سيارة «أودي 180»، وعثر إلى جانبها على غليون خشبي، وأسفرت العملية عن تدمير القسم الأكبر من مكتبة المركز التي تضم أكثر من 15 ألف كتاب وإصابة الكثير من المواطنين والسيارات.
بعد مرور دقائق عدة من تلك الانفجارات، تعرض مكتب شؤون الأرض المحتلة في الدور الأول من بناية الإيمان لصاحبها جعيفل البنا، والكائنة في شارع كرم الزيتون، لهجوم رابع مماثل بأربعة صواريخ.
كان خميس ذا دور فاعل في التفجيرات الأربعة، يشاركه جميل القرح وثلاثة جواسيس آخرين استطاع القرح تجنيدهم وضمهم إلى الشبكة الإرهابية، وكان أسلوب منصات صواريخ السيارات أسلوباً جديداً لم تعرفه بيروت من قبل، أو أية عاصمة عربية أخرى.
لم يقف الأمر عند تفجير سفارة العراق ومكاتب المنظمات الفلسطينية، بل تعداه إلى ما هو أبعد بكثير، إذ طالت الانفجارات الكنائس والمساجد لإثارة الفتن بين الطوائف، وإظهار عجز رجال الأمن اللبناني عن اكتشاف الجناة، أو إحباط المؤامرات التي تحاك فوق الأراضي اللبنانية.
ولأسباب كثيرة، أولها أن الأجهزة اللبنانية ترى أن التعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية أمر معيب ومسيء لسمعتها، وثانيها، أن الدولة اللبنانية لا تزال تفضّل السياحة على الأمن، والسبب الثالث هو التأرجح ما بين دولة المساندة ودولة المواجهة. كانت شبكة خميس بيومي وشبكات تخريبية عدة أخرى تعمل في لبنان بحرية مطلقة، وينسل أفرادها من بين رجال الأمن كالرمال الناعمة، فأوقعت تلك الشبكات لبنان في مستنقع عميق، وتأزمت العلاقة مع الفلسطينيين بسبب اللامبالاة اللبنانية في مطاردة العملاء ومحاكمتهم.
في تلك الأثناء، كانت سلطات الأمن الفلسطينية ألقت القبض على بلجيكي، بعدما تأكد لها أنه جاسوس إسرائيلي، وأثناء التحقيق معه قامت القيامة واشتد الضغط اللبناني لإطلاق سراحه، فسلموه للسلطات الأمنية مع ملف يحتوي اعترافاته، ليطلقوا سراحه بعد 24 ساعة!!.
الأمن والهدنة أما الذين سُمح للفلسطينيين بالتحقيق معهم، فقد اعترفوا اعترافات كاملة بأنهم عملاء للموساد، وثار الشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني للملاحقة الفلسطينية الدؤوبة للجواسيس الأجانب، واشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها بعد موجة التفجيرات التي هزت لبنان كله، لدرجة توجيه نداء في الصحف يوم الجمعة 27 ديسمبر (كانون الأول) 1974 للذين يزرعون القنابل والصواريخ، أن يعلنوا الهدنة لمدة 48 ساعة تبدأ قبل رأس السنة بيوم واحد!!، تماماً كما حدث في بريطانيا سابقاً مع ثوار إيرلندا، وكتبت الصحف في لبنان أنه أمام عجز الدولة عن إلقاء القبض على أي متهم بزرع القنابل، لا مفر لديها من أن تلجأ إلى عاطفته الإنسانية، وترجوه أن يتوقف ليومين، أما إذا لم يستجب زارعو القنابل لرجاء الحكومة، فلا مانع من إعلان بيروت مدينة مفتوحة لمدة يومين، وليتحمل زارعو القنابل مسؤوليتهم أمام الضمير الإنساني، والتاريخ.
في التاسع من يناير (كانون الثاني) 1975، ألقى رجال الأمن الفلسطينيون القبض على خميس بيومي في شارع كورنيش المزرعة، عندما كان يرسم لوحة كروكية لأحد مباني المنظمة الفلسطينية، وأثناء التحقيق معه استخدم كل أساليب المراوغة والدهاء التي تدرب عليها، واحتاط لأيام عدة كي لا يقع في المحظور، لكن الاستجواب المطوّل معه أصاب مقاومته في الصميم، وتلاشت تدريجياً خطط دفاعاته وهم يلوحون له باستخدام طرق التعذيب معه لانتزاع الحقيقة، فاعترف بكل شيء، وقُبض على جميل القرح الذي مات بالسكتة القلبية قبلما يعترف بأسماء أعوانه الثلاثة الآخرين، أما روبرتو فقد اختفى ولم يُقبض عليه، وتسلمت السلطات اللبنانية بيومي وقدمته للمحاكمة وعوقب بعشر سنوات في السجن!!!.